ذكريات مغربية

محمد كريشان

الدار البيضاء أغسطس/ آب 1985…انتهت القمة العربية وجاء المؤتمر الصحافي الختامي للعاهل المغربي الحسن الثاني. كانت تلك أول قمة عربية أشهدها فأعددت قائمة من الأسئلة التي يمكن أن أطرحها وشرعت في تقليب أيها أكثر قوة. بدأ المؤتمر الصحافي وبدا جليا أن مزاج الملك لم يكن على ما يرام يومها إذ شرع في «بهدلة» الصحافيين بلا رحمة. أول الضحايا على ما أذكر كانت منى نبعة مديرة مكتب وكالة الأنباء الفرنسية في المغرب العربي:
– جلالة الملك… قرارات هذه القمة لم تكن على المستوى الذي كانت تتطلبه الأوضاع وخطورة المرحلة وتحدياتها.. هل من تفسير لهذا القصور؟؟
– سيدتي لا أعتقد أن كل هؤلاء القادة العرب جاؤوا وتباحثوا في ما تباحثوا فيه وخاضوا في ما خاضوا فيه حتى تأتي حضرتك لتحكم على قراراتهم ..القرارات أتخذت ليس لتنال إعجابك أنت!!.
السؤال التالي كان لمراسل مصري لم يتمكن المسكين حتى من إكمال سؤاله بعد أن عرّف بنفسه إذ عالجه الملك بالقول، وسط دهشة الحضور: «عندما مرضت في الفترة الأخيرة ..رئيسكم لم يكلّف نفسه حتى رفع السماعة ليسأل عن أحوالي..إجلس!! من لديه سؤال آخر؟؟» نظرت إلى أسئلتي التي كنت أسعى لانتقاء أكثرها إثارة فطويتها مسرعا ودسستها في جيبي كمن اختلس لتوه ورقة نقدية ويخشي افتضاح أمره…مهمهما في سري «خليك في حالك أحسن»!!.
ربما لو كنت على دراية كافية وقتها بشخصية العاهل المغربي لما استغربت الذي حدث فالرجل شديد الاعتداد بنفسه، واسع الثقافة العربية والاسلامية والغربية، سريع البديهة، حاد الذكاء، متحدث لبق باللغتين العربية والفرنسية التي يجيدها أفضل من أهلها، قوي العبارات التي ينفثها بسهولة نفثه لدخان السجائر التي كان لا يتركها حتى خلال اللقاءات الصحافية. والأهم من كل ما سبق أنه كان يستمتع بإحراج الصحافيين، خاصة الفرنسيين منهم، الذين كان يعرف مسبقا أنهم عادة ما يأتونه بأكثر الأسئلة إحراجا وأحيانا استفزازا.
لم تكن تلك مهمتي الصحافية الأولى في المغرب فقد جئتها من قبل لنفس صحيفتي التونسية الأسبوعية «الرأي» لإجراء سلسلة مقابلات كان من أبرزها وقتها مع زعيم «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» عبد الرحيم بوعبيد إلى جانب سلسلة مقالات عن نظرة النخبة المغربية لقضية الصحراء الغربية التي هي محل إجماع وطني لامثيل له.
لم يكن ممكنا زيارة المغرب دون الالتقاء بالصحافي والكاتب خالد الجامعي الذي تعرفت عليه قبل ثلاث سنوات في مصر خلال تغطية الانسحاب الإسرائيلي من سيناء. كان مشغولا وقتها بترتيب سفر إبنه إلى الخارج للدراسة بعد حصوله على الثانوية العامة، وابنه هذا هو الذي أورثه مهنة المتاعب فظل يعاني منها طوال السنوات الماضية. وإذا كان خالد الأب المعارض المشاغب، رئيس تحرير صحيفة «لوبنيون» اليومية الناطقة بالفرنسية لسنوات، قد كتب مذكراته تحت عنوان «متهم حتى تثبت إدانته»، فإن أبو بكر الابن الذي تولى نشر صحيفتي «لو جورنال إبدومادير» و»الصحيفة الأسبوعية» وجد نفسه مع السلطات المغربية في ذات خانة الوالد المزعجة. وخالد الجامعي صديق لا ألتقيه دائما إلا صدفة، في مصر أولا ثم ذات مرة بعد ذلك في أروقة جريدة «عكاظ» السعودية في جدة، ثم بعد سنوات في اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1991 وهو الاجتماع الذي غادره كل المغاربة عائدين إلى بلادهم احتجاجا بعد ما مٌنح ممثل البوليساريو الكلمة في افتتاحه.
تشاء الصدف أن نلتقي من جديد عام 1995 قادما هذه المرة من لندن لسلسلة تحقيقات للتلفزيون العربي للبي بي سي (في نسخته الأولى التي أغلقت عام 1996 قبل أن تعود من جديد في 2008). كانت سلسلة من التقارير عن أزمة الصيد البحري مع أوروبا والهجرة غير النظامية إلى أوروبا وتجارة المخدرات و أيضا عن سبتة ومليلية اللتين وصفناهما بأنهما مغربيتان على الخارطة الجغرافية إسبانيتان على الخارطة السياسية.
وإلى المغرب نعود من جديد عام 2000 قادما من الخليج ولحساب تلفزيون آخر هو «الجزيرة» لسلسلة مقابلات كان من أبرزها مع المعارض إبراهام سرفاتي الذي تزعم أواخر الستينيات منظمة «إلى الأمام» الماركسية اللينينية والذي حكم عليه بالمؤبد عام 1975 قبل أن يبعد إلى فرنسا عام 1991 ولم يعد إلى المغرب إلا عام 1999 بمبادرة من الملك محمد السادس ليموت في مراكش بعدها بعشر سنوات، وكذلك مع المفكر والفيلسوف الشهير محمد عابد الجابري الذي له أكثر من 30 مؤلفاً في قضايا الفكر المعاصر، أبرزها «نقد العقل العربي» وقد وافته المنية عام 2010 ، وأيضا مع عبد الهادي بوطالب أحد أبرز مستشاري الحسن الثاني لسنوات وقد توفي قبله بعام.
كان المغرب حاضرا في كل المحطات الصحافية، وكم كنت سعيدا حين صار الرباط مقر مكتب القناة للمغرب العربي ومنها تنطلق نشرة مغاربية يومية، قبل أن تقرر السلطات المغربية إغلاق المكتب في خطوة غير مفهومة خسرت هي من ورائها أكثر مما خسرت القناة .. وهذه قصة أخرى.

القدس العربي

أربعاء, 14/08/2019 - 12:17