هونغ كونغ و«الثورة الثالثة» الصينية

وسام سعادة

بعد ثلاثين عاما على الفض الدموي لاحتجاجات ساحة تيان آن مين (حزيران/يونيو 1989)، وبعد اثنين وعشرين عاما على استرجاع البرّ الصيني لهونغ كونغ على أساس مبدأ «بلد واحد ونظامان مختلفان»، تأتي الاحتجاجات الشعبية الهادرة في هذه الأخيرة ضدّ ما اعتُبِرَ تفريطا بالحكم الذاتي
لأجل هذا، يبقى للمقاربة التي قدّمتها المؤرخة الفرنسية ماري كلير بيرجير في كتابها «الصين.

رأسمالية الدولة الجديدة» الصادر عام 2013، امتيازها. فبدلا من النظر إلى اللبرلة الاقتصادية كمدخل إلى اللبرلة السياسية، وما يعقب ذلك من نظر إلى النظام الحاكم في الصين على أنّه يسمح باللبرلة الأولى ويحول دون اللبرلة الثانية، طوّرت بيرجير تحقيبا لافتا لعمليات التحديث والإصلاح الاقتصادي في صين ما بعد ماو، مشدّدة على أنّه في كل هذه العمليات لم يكن منظورا أبدا للقطاع العام أن يهمّش، بل على العكس تماما أن يصير أكثر حيوية ومكنة، بحيث يبقى مغزى «اشتراكية السوق» هو رأسمالية سوق تحت قيادة رأسمالية الدولة، وهكذا فإنّ الحزب الشيوعي الصيني، بدلا من أن يكون هو المغلوب على أمره بسبب اللبرلة الاقتصادية، إنما الواقف حجر عثرة أمام اللبرلة السياسية، فإنّه بخلاف ذلك هو من يقود عملية اللبرلة الاقتصادية نفسها، وهذه العملية تتم بشكل لا يعيد ظهور برجوازية مستقلة، وبشكل يدمج النخب المدرائية في القطاع العام مع النخب المدرائية في القطاع الخاص. تفصل بيرجير في صين ما بعد ماو بين مراحل 1978 1989 حيث كانت الأولوية للرسملة في الأرياف، ثم مرحلة التسعينيات حيث تركزت الأولوية على تحديث المدن والنهضة الصناعية، لا سيما في الأقاليم الساحلية، ثم الحاجة مجددا لخطاب التوازن بين التحديث والتنمية في كل من المدن والأرياف، والسواحل والداخل، في العقد الأول من هذه الألفية، ما ترافق مع زيادة الحاجة إلى استلهام «المجانسة» الكونفوشية. وبطبيعة الحال، لم يتسع كتاب بيرجير في ذلك الوقت لتلمس المرحلة الجديدة التي تبدأ من سنة 2012 مع شين جين بينغ، وهو من «الأمراء الحمر»، بما أن والده كان من قادة الحزب في زمن ماو، قبل أن يحلّ عليه غضب ماو ويكون من ضحايا معسكراته، ثم يعاد له الاعتبار في زمن دينغ شياو بينغ.

هل ثمّة بالفعل حيثيات موضوعية لخطاب شين جين بينغ حول تكامل القوة الاقتصادية مع تحقيق كل من قيمة ثقافية كونية للنموذج الصيني واقتدار عسكري له؟ قد يكون اصطلاح «الثورة الثالثة» مبالغا فيه في هذا المقام، إذا ما استثنينا أمرين، أولهما أنّه للمرة الأولى منذ رحيل دينغ شياو بينغ، يجمع رجل واحد هذا المقدار من السلطة والنفوذ داخل الحزب الشيوعي الصيني، والثاني هو ازدياد منسوب الخطاب «القومي»، المحاكي للأكثرية الإثنية من «الهان» في الصين، بما هو أيضا خطاب «قومي عابر للبحار»، يميل إلى تجسير المسافات مع الأقليات الإثنية الصينية في سائر بلدان جنوب شرق آسيا. ما بين هذا الخطاب القومي الداخلي، والخطاب القومي العابر للبحار، تفرض احتجاجات هونغ كونغ نفسها كمعضلة فعلية. لا الصين الشعبية بمقدورها أن تسير على منهاج هونغ كونغ (بخلاف انتظارات الليبراليين «الحتموية» قبل عقدين)، ولا هونغ كونغ بإمكانها أن تتقبل النموذج القائم في البرّ الصيني، في الوقت نفسه ثمة صعوبة في الاستيعاب العملي لهذه المعادلة الثنائية.
رأسمالية الدولة هي نموذج مزمن بالنسبة إلى الصين الشعبية، ولقد عبر هذا النموذج إلى اليوم مراحل مختلفة. رأسمالية الدولة هذه هي أيضا أكثر من نظام في بلد واحد، أوسع بكثير من معادلة «نظامان»، واحد ليبرالي قصوي في هونغ كونغ والآخر موجه في بكين.

 في الصين الشعبية على الأقل ثلاثة أنظمة اقتصادية اجتماعية. واحد للأرياف والأقاليم الداخلية، وثان في المركز، وثالث للأقاليم الساحلية، ثم تضاف «المناطق الاقتصادية الخاصة»، ثم هونغ كونغ وماكاو. إنه نموذج «لامركزية اقتصادية» مشروط بمركزية سياسية يقودها الحزب ـ الدولة، والحزب ـ الأمة، الذي يقدّم نفسه أيضا على أنّه حزب ـ الأكثرية الإثنية «الهان» أكثر فأكثر. نموذج مركب كهذا يصطدم بتناقضاته قبالة الحدود «الإدارية» مع هونغ كونغ، لكن هذا الاصطدام لا يبدو، حتى الآن، على أنّه يمهّد للذهاب بهذه التناقضات إلى خواتيمها. ما زالت هذه التناقضات ممتلئة القدرة على إعادة تدوير نفسها.

اثنين, 19/08/2019 - 10:34