الجزائر: الدرس التونسي

 محيي الدين عميمور

تابعت أحداث الربيع التونسي منذ انطلاقه من سيدي بو زيد بكل اهتمام، وكنت، وما زلت، أرى أن فيما تعيشه الخضراء دروسا بالغة الأهمية يجب أن تسترشد بها كل الدول العربية في كل مسيرة جادة نحو الديموقراطية والتنمية الوطنية والتألق الدولي، وهو ما كنت كتبته في حينه.

ومن هنا حرصت على أن أقوم بزيارة سريعة لتونس بين الدورين الأول والثاني للانتخابات الرئاسية، وكنت أريد، بمبادرة شخصية، أن أستكمل معلوماتي عن التطورات، لتكون سطوري أقرب إلى الحقيقة والواقع بقدر ما أستطيع، احتراما للقارئ ولقلمي.

ولم استعرض في حينه كل ما رأيته وسمعته لسببين، أولهما أنني لم أستأذن من تحدثت معهم في أن أروي ما سمعته منهم وبذكر أسمائهم كضرورة للمصداقية، والثاني هو أنني لا أستطيع أن أزعم بأنني أطلعت على كل ما يجب أن أعرفه لأخرج بأحكام صائبة وموضوعية.

ولم أكن أريد أن أضع عمامة هي أكبر بكثير من رأسي.

لكن هناك انطباعات سريعة أتصور أن من حق القارئ أن أنقلها له، متحملا مسؤوليتها المطلقة، ومن هنا حرصت على ألا أتناول الأمر إلا بعد انتهاء الدور الثاني ومعرفة نتائجه، ومقارنتها بما سبق أن أحسست به أو وصلت إليه.

وأعتقد أن الدرس الأول الذي يجب أن نخرج به من دراسة الربيع التونسي هو أن ضمان الخروج الآمن من الوضعية القلقة التي عاشتها بلاد الياسمين كان الالتزام المطلق بأحكام الدستور، وهكذا أمكن تفادي ما عرفته أرض الكنانة عندما جرى استبعاد الحل الدستوري في مسؤولية إدارة البلاد، التي انتزعها، وبقرار من الرئيس المتنحي، مجلس الدفاع الوطني، وهو ما كان بداية الانزلاق الذي لا يختلف كثيرا عمّا عرفناه في بداية التسعينيات، مع الفروق التي يمكن تصورها من معرفة تطور الحياة السياسية في البلدين.

وكان من أهم ما أحسست به خلال زيارتي لتونس وحواري مع الرفقاء هو أن هناك اتجاها قويا يتخوف من بروز مرشحين تساندهم قوى مالية معتبرة، قد تكون لها امتدادات خارجية، أو تكون هي نفسها امتدادا لقوًى خارجية بشكل أو بآخر.

وبرغم تخوفات سمعتها من البعض حول احتمال تغوّل التيار الديني، فقد أحسست أن قيادة هذا التيار درست جيدا تجربة كل من الجزائر ومصر، وأدركت أن الانتصار الحقيقي هو معرفة المعادلة الحقيقية للقوى السياسية، بغض النظر عن حجم الأصوات الانتخابية أو هدير الجماهير الشعبية.

بالتوازي مع هذا أحسست أن قوى اليسار والتوجهات العلمانية بوجه عام تغلبت على كل شعور محتمل بالإحباط الذي يتسبب فيه اختلال التوازن العددي الذي لا يمكن تعديله بالمضمون النخبوي، وهكذا تفادى هذا التيار، فيما شعرت به، كل محاولة للتعالي على الواقع الجماهيري، بل انخرط في المسيرة الشعبية، متفهما حجمه ومتفاديا أي تصرف يكن أن يوحي بأنه يحاول أن يفرض رأيا أو شخصا أو اتجاها.

وكان هذا التكامل بين الأغلبية والأقلية والتفهم المتبادل بينها عنصرا رئيسيا في الانتقال السلمي السلس للسلطة.

لكن، وبالموازاة مع هذا، كان هناك ما يشبه الوضعية في الجزائر، حيث كان هناك رفض شبه كامل لمرشحي القيادات الحزبية، وكان الذكاء الحقيقي هو أن الأحزاب تفهمتْ الوضعية التي نتجت عن ممارسات قديمة، ولم يلجأ بعضها إلى افتعال تظاهرات صاخبة، ربما كان بعضها موجها للخارج، في استعراض للعضلات أو استجداء للدعم.

وفرض الشباب الثائر إرادته، وبرز هذا بوجه خاص في التفاعل الشعبي الكبير مع مرشح لم يُعرف عنه تألق جماهيري، هو الأستاذ قيس سعيد، وكان هذا على حساب شخصيات أخرى كانت بعض التوجهات الإعلامية تضعها على رأس الاختيارات السياسية، كوزير الدفاع السابق على وجه المثال، ولعلي أزعم أن سبب خسارته في الدور الأول يعود بحجم كبير إلى مبالغة بعض أنصاره في الحماس له.

وهنا يأتي واحد من أهم العناصر التي ضمنت الانتقال السلس للسلطة، وهو دور الجيش الإيجابي، والذي تجسد في عدم القيام بأي دور مباشر في التحركات السياسية والانتخابات الرئاسية، مكتفيا بأداء دوره الدستوري في حماية الوطن وسلامة أراضيه، وإعطاء الشعور بأنه يتمتع باليقظة اللازمة التي لا تسمح لأي كان بتجاوز حدود الدستور.

وكان من أهم ما لاحظته أن تونس لم تعِشْ أي عملية تشكيك في شرعية المؤسسات الدستورية، برغم أنها، في معظمها، كانت جزءا من نظام الرئيس بن علي وقبله من نظام الرئيس بو رقيبة وبعده من نظام الرئيس قايد السبسي، رحم الله الجميع، وكان هناك، فيما أحسست به، يقين عام بأن ما هو مؤقت يجب أن يُعطى الفرصة لأداء الدور المنوط به تحت العين الفاحصة للجماهير.

ولا بد أن أضيف إلى هذا، وأساسا من واقع المتابعة الإعلامية، هو أن الشعب التونسي، وبرغم أي اختلافات في الرؤى،  برز كشعب واحد، يرفع علما واحدا، ويتحدث بلغة واحدة، ويعمل من أجل هدف واحد، ولم يكن هناك من يرى نفسه فوق الجميع أو أذكى من الجميع، ولم يحاول أي اتجاه التصرف بأسلوب الطائرة المختطفة لابتزاز السلطة المؤقتة القائمة أو فرض إرادته عليها.

وأعرف على وجه اليقين أنه لم يكن هناك في تونس من قام بتخوين فرد أو جماعة أو اتجاه، ولم يكن هناك بالطبع من هدد الآخرين بالقتل إذا قاموا بما يرفضه اتجاه معين، أداء للواجب الانتخابي أوتحمسا له أوعزوفا عنه.

وفي كل هذا برز الإعلام التونسي، والتلفزة التونسية الرسمية بوجه خاص، كقوة فعل رئيسي على الساحة السياسية، وهو ما جعلني أشعر بالرثاء للوضعية الإعلامية في الجزائر، حيث تم تفتيت الرأي العام في السنوات الأخيرة، بمنطلقات أمنية أو مصلحية، بحجم من الصحف لا تملكه دول الوحدة الأوربية الـ28 مجتمعة، وهو ما يفسر وضعية الضعف الإعلامي الذي تعاني منه السلطات العمومية، والتي لم تنجح في إقناع الكثيرين بصواب تحركاتها ومواقفها، بالرغم من أن الجزائر تضم عددا من أكثر الإعلاميين كفاءة ومقدرة، ومنهم من تستثمره اليوم العديد من قنوات التلفزة والصحف العربية.

وكانت المناظرات المتلفزة تجربة عربية رائدة من المؤكد أن دولا كبيرة شعرت، وهي تتابعها، بأنها أصغر شأنا من تونس، وعشنا لغة عربية راقية ابتعدت بنا، ولو إلى حين، عن العامية المبتذلة التي يغرقنا بها البعض، وكان هناك من الأشقاء من راح يقلل من أهمية ذلك الإنجاز الإعلامي بالقول إن دولا أوربية سبقتنا إليه، وهو ما جعلني أذكر رفيقا بمثل مشرقي شعبي عن الأصلع الذي يتفاخر بشعر أحد جيرانه.

هنا تأتي المناظرة الأخيرة بين الأستاذ قيس سعيد والسيد نبيل القروي، والتي رأيتها درسا في المناظرات السياسية وفي الأداء الإعلامي.

فقد بدا قيس سعيد رجل دولة بالمعنى الكامل، يعرف على وجه التحديد ما يريده، ويستعرض آراءه وأفكاره بلغة عربية متميزة، وإن كنت أعتقد أنه أخطأ في قوله، حسب ما خيل لي أنني سمعته، من أنه لم يقم بأي أداء انتخابي قبل اليوم.

وهذا يجعلني، وقد تابعت تصريحه إثر ظهور أو النتائج بفوزه، أرجو أن يستعين بخبراء إعلاميين لبرمجة مداخلاته وخرجاته، فلا وجود للارتجال في أعلى مستويات الدولة، مهما حسنت النوايا.

أما بالنسبة للأداء الإعلامي، فأهم ما لاحظته هو أن الإعلامي المنشط للمناظرة راح يكرر أكثر من مرة وبإلحاح مملّ دعوة المتناظرين للحوار بينهما والتعليق على ما يقوله كل منهما.

وظن البعض وبعض الظن فقط هو الإثم، أن المرشح نبيل القروي كان وراء هذا الإلحاح ليتمكن من إحراج رفيقه، وهو ما حدث بالفعل بمحاولته الإيحاء بأن حزبا إسلاميا كان وراء تدعيم الأستاذ قيس سعيد، وأتصور أن هذا التصرف الإعلامي من رجل أهم مميزاته أنه إعلامي مقتدر كان سببا في خسارته عددا هاما من أصوات الناخبين، خصوصا بعد أن أثبتت النتائج الانتخابية أن عدد الأصوات التي حصل عليه الفائز الأول تتجاوز إلى حد كبير رصيد حزب النهضة في الانتخابات التشريعية.

ولعل هناك سببا ثانيا لخسارة القروي بهذه النسبة الكبيرة وهو موقف قيس سعيد من الكيان الصهيوني، والذي كان موقف رجولة حقيقي، تناقض مع موقف القروي الذي كرر مقولة يكررها جبناء الوطن العربي، وهي أنهم يؤيدون ما تؤيده السلطة الفلسطينية، متجاهلين بأن هذه السلطة لا تملك من أمر نفسها الكثير، وقادتها يخضعون للمراقبة الإسرائيلية وربما للتفتيش في كل تحرك لهم.

وكان واضحا أن القروي أخذ بعين الاعتبار التوجهات الأوربية والعربية، وهو، في تصوري، ما تكرهه شعوبنا التي ترفض الانحياز للرأي الأجنبي أيا كان.

وهنا لا بد من أقول بأنني أنتظر أن يواجه الرئيس التونسي الجديد حجما هائلا من الضغوط العربية التي تخشى العدوى التونسية، وستحاول دول معينة التسرب إلى الداخل التونسي بأساليب مختلفة، لن يكون بعضها فوق مستوى الشبهات، ومن هنا فإن دول المغرب العربي والجزائر في المقدمة مدعوة للقيام بدور أكثر حيوية في دعم الانطلاقة الديموقراطية التونسية، وآمل أن تكون الانتخابات الرئاسية الجزائرية واحدا من عناصر الدعم لشعب كان حليفا لنا في كفاحنا، ولبلد كان من أهم القواعد الخلفية للثورة الجزائرية، واختلطت دماء الشعبين تحت ضربات الاستعمار الفرنسي.

ولعل استعادة الاستقرار في منطقة المغرب العربي وزيادة حيويتها يكون هو الدعم الحقيقي للسلم والأمن في المنطقة، وربما كان من أهم ما يمكن أن يوفر للشعب الفلسطيني قاعدة خلفية نشطة في كفاحه ضد العدو الصهيوني.

ومن هنا، سيزداد حجم العداء لكل ما يمكن أن نقوم به لبناء الديموقراطية الحقيقية في بلادنا وزيادة حيوية التنمية الوطنية وحسن استثمار الثروات الطبيعية، والتخلص النهائي من الاستغلال الذي يمارسه الشمال ضدنا منذ عقود وعقود.

ولعلي أختتم هذه السطور السريعة بالاعتذار عن أي خطأ تحليلي أو استنتاجي أكون ارتكبته في استعراض الأحداث، لكني قلت ما أراه وأتحمل مسؤوليته.

آخر الكلام: سالت أحد المتحمسين ضد قانون المحروقات الجزائري المقترح عن النقاط التي يأخذها على هذا القانون، وكان رده أن هذا قانون يخدم المصالح الأجنبية على حساب المصالح الوطنية.

وقلت له بتواضع حقيقي إنني أسأله لأنني لست خبيرا في المحروقات، ولكنه ثار في وجهي قائلا: أنتم من لحاسي “اللونجارز” (الحذاء العسكري)

وانصرف مسرعا قبل أن أصفعه.

رأي اليوم 

أربعاء, 16/10/2019 - 11:59