الجزائر: المسيرة من نوفمبر نحو ديسمبر

محيي الدين عميمور

يبدو أن علينا أن نترحم على جورج إيستمان، مخترع آلة التصوير الفوتوغرافي الذي يمكننا من رؤية ما يجب أن نراه مما يحدث حيث لا نستطيع أن نراه.كان هذا ما أشعر به وأنا أطّلع في موقع تواصل اجتماعي على صورة تجمّعٍ لبعض المحامين الجزائريين كانوا يتظاهرون ضد وزارة العدل إثر عملية تطهير قامت بها في سلك القضاء.وبرز في الصورة محامٍ تردد اسمه مؤخرا في تجمعات سياسية ليس من حقّ أحد أن يلومه على مواقفه فيها ونداءاته منها.لكن الجديد هنا هو أن تلك الصورة رافقتها صورة أخرى تبرز المحامي المذكور في لقاء حميمي ضاحك مع الانفصالي الفاشل مهني فرحات، رئيس ما يسمّى بحكومة القبائل المؤقتة التي تحتضنها العاصمة الفرنسية وتتلقى الدعم من بعض الأشقاء وتشكل امتدادا للأكاديمية البربرية التي أنشأتها المخابرات الفرنسية في 1967، إثر تأميم الجزائر للمناجم التي كانت تابعة للمستعمر السابق، وهي الأكاديمية التي كان الصهيوني “جاك بينيت” محركها الرئيسي، باعتراف أهم عناصرها موحاند أعراب باسعود، وهو منظر ما يُشار له بالبروتوكولات المماثلة لبروتوكولات حكماء صهيون، وتهدف لتحقيق هدف مماثل لها في الشمال الإفريقي.ومرة أخرى، ليس من حق أحد أن يحاسب أحدا على مواقفه وتصرفاته، لكن ليس من حق أحد أن يمنعني من رفض تلك المواقف والتصرفات، خصوصا إذا كانت تقدم نفسها كتعبير عن إرادة الشعب الجزائري في حراكه التاريخي، وهذا هو جوهر الاختلاف الذي تعيشه الجزائر اليوم، والذي يتمحور حول ادعاءات اتجاهات إيديولوجية سبق أن أشرت لها من أن الانتخابات الرئاسية التي حُدّد لها يوم 12 ديسمبر المقبل هي انتخابات محكوم بفشلها مسبقا، وهو ما بلورته افتتاحية صحيفة “لو موند” الفرنسية في الأسبوع الماضي، وتردده كل الاتجاهات الفرانكولائكية ومتعصبو النزعة البربرية.والملاحظ الآن هو هياج عناصر الأحزاب الثلاثة والتوجهات العشائرية المرتبطة بها، والعدوانية الرهيبة ضد كل من يقول كلمة خير في تلك الانتخابات، والتي وصلت أغلبية هامة من أبناء شعبنا إلى الاستنتاج إلى أنها السبيل الوحيد للخروج بالبلاد من أزمتها الراهنة.ولعلّي أذكر بأن بعض قيادات تلك الأحزاب اللائكية التوجه، والتي نادت في بداية الحراك بضرورة تنحي كل الباءات التي تتربع على قمة السلطة، لم تتردد في التصريح العلني الصاخب  بأنها ترفض تلك الانتخابات حتى ولو تنحت باءات الدولة كلها.وفي إطار عملية توزيع الأدوار التي تتكشف معالمها يوما بعد يوم سمعنا قيادات أخرى تعلن رفضها لديموقراطية صناديق الانتخابات، التي تقود، حسب زعمها، إلى فرض دكتاتورية الأغلبية على إرادة الأقلية، وهو حكم عبقري لم أقرأ عنه نقدا ولو كان محتشما، في الصحف الفرنسية، راعية الديموقراطية وصوت الحرية.وواضح أن كل هذا يعبر عن فشل تلك التوجهات في إقناع الجماهير بتقبل فكرة “هيئة رئاسية مؤقتة”، كان واضحا أن وراءها محاولة فرض أسماء معينة تعبر عن إرادة تلك التوجهات ومن يقف وراءها في الداخل أو الخارج ولا تحقق بأي حال من الأحوال أي إجماع وطني، وهو ما برز في فتور التعاطف مع التظاهرات التي نظمت في الأسابيع الأخيرة بما بدا أن أهدافه كانت إعلامية أكثر منها سياسية.وواقع ما يحدث هو أن الدولة العميقة التي زلزل الحراك الشعبي أركانها أصبحت دولة “غريقة”، تحاول عناصرها أن تفلت من أمواج الدولة “العريقة” التي أحسّت بأن أهم أهداف الحراك الشعبي قد تحققت، وبأن هناك فرقا شاسعا بين المطالبة بإنجازات أكثر عمقا في مسار العمل الثوري وبين الرفض الأحمق لكل المبادرات التي تضمن إمكانية الإنجاز والتي تتطلب تحقيق وضعية استقرار، لا يمكن بدون أن يتحقق أي شيئ ذي قيمة.ولا بد من الاعتراف بأن فشل الدولة العريقة في إفراز قيادات تعبر عن إرادتها يقابله قدرة الدولة الغريقة على تنظيم تحركاتها تحت قيادة منظمة منسجمة، حتى وإن كان من الصعب أن يفرض الباطل إرادته، وهو ما تبرزه تخبطات المواقف التي يحاول الصخب المفتعل التغطية عليها.وهكذا كان مما يثير السخرية هو أن التوجهات التي تعتبر الحكومة الحالية حكومة “غير شرعية” تطالب هي نفسها  بإصلاحات في مجالات كثيرة، ومن بينها القضاء على وجه المثال، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا في ظل حكومة “شرعية” تفرزها الانتخابات “الشرعية”، وهذه ترفضها “الجماعة” بحجة أنه لا ثقة في أجهزة الدولة القائمة حاليا، وبرغم أن وزارة الداخلية، المتهمة دائما بالتزوير، قد كُفّت يدها عن كل ما يتعلق بالانتخابات، وأوكل الأمر إلى لجنة مستقلة لا تخضع لأحد في تنظيم عملها، وهي اللجنة التي يرأسها وزير العدل الأسبق محمد شرفي.وهذا يعود بنا إلى أسطورة “الهيئة الرئاسية المؤقتة” ليُطرح السؤال من جديد، إذا كان الجميع متهمون بالتزوير، فمن الذي سيؤسس هذه الهيئة ومن سيختار أعضاءها ومن سيتقبل قراراتها؟.وهنا نكتشف مأزق “الجماعة”، ويبدو واضحا منطق “نلْعبْ وإلاّ نفسّد” الذي عشناه أطفالا، وهو ما يُذكر بصورة هزلية رأيتها في فيلم مصريّ قديم، حيث لم يستطع المغني أجش الصوت مُنكر الأداء إجبار المدعوين على الإعجاب بأدائه فحرض أنصاره على تخريب الحفل وتحطيم “كلوبات” الإضاءة بالكراسي والعصي.والغريب هنا أن أحدا ممن يتزعمون تلك التوجهات لم يجرؤ على أن يتقدم كمرشح في الانتخابات الرئاسية، على الأقل كموقف تحدٍّ للسلطات، التي لن تجرؤ على رفض مرشح تقدمه جماهير غفيرة باستمارات يتم توقيعها علنا من قبل المواطنين المتحمسين للمرشح، ولو رفضت السلطات ملف الترشح لحكمت على نفسها بعدم الأهلية، وسيلعنها الجميع، وفي مقدمتهم المتحمسون للانتخابات الرئاسية.لكن “الجماعة” يعرفون بأنهم مكروهون شعبيا، وبأن الضجيج الذي تخلقه أي تجمعات من الواضح أنها لا تعبر عن إرادة جماعية هو صراخ لا يستطيع أن يحجب صوت الحقيقة، وخصوصا عندما يتذكر الشعب أن هؤلاء أنفسهم هم الذين أيدوا جنرالا تقدم للانتخابات الرئاسية قبل استقالة الرئيس بو تفليقة، وكان ذلك في ظل كل المؤسسات الحكومية التي تتهم اليوم بالتزوير.لكن المضحك المؤسف في الوقت نفسه هو أن منابر إعلامية عربية، تنقل صورا مرعبة عمّا يعرفه الوطن العربي من قمع وبطش وقتل وترويع، لا تملك النزاهة الكافية لتعترف للشعب الجزائري بوعيه وبنضجه وهو يدعم مؤسسة عسكرية كانت راعية سلمية الحراك الجزائري كانت، رغم أي أخطاء في الأداء، الضامن الرئيسي لكيلا تنطلق رصاصة واحدة تصيب متظاهرا جزائريا أيا كان، ولم يكن هذا بالأمر السهل، وعناصر الاستفزاز كانت ثابتة.لكن هناك من لا يريد، وربما من منطلقات شوفينية ألفناها كثيرا، من لا يريد أن يعترف بأن الجيش الجزائري ليس جيش كامب دافيد، ليس جيش منطقة أو فصيلة أو مذهب معين.من هنا أطالب كل مواطن جزائري بمتابعة القنوات العربية، وخصوصا تلك التي ترفع شعار معاداة “الثورة المضادة”، وسيرون الحقائق تخرج لسانها لكل المخادعين.

رأي اليوم

أحد, 03/11/2019 - 11:10