التفكك الأسري!

خالد الفاظل

حكى لي أحدهم منذ سبعة أعوام قصصا مأساوية لنساء تفرقت دماء أطفالهن بين رجال "التستوستيرون"، إحدى القصص كان فيها الراوي شاهد عيان على مغامرات الأم المستميتة من أجل إعالة بناتها بأساليب معتمة! ربما لم تجد غيرها بغية كسوتهن وإطعامهن وإضحاكهن في صباحات الأعياد.
قال الراوي:
كنا كتيبة من الشباب اكترينا بيتا منفردا بمبلغ زهيد في أحد الأحياء الشعبية في أطراف العاصمة، كنا نأوي إلى البيت ليلا لنستدرج الهواء النظيف والعزلة للعب الورق(بيلت) دون تدخل عائلي أو منغصات، ولطبخ عشاء زهيد المكونات يناسب مقاس جيوبنا آنذاك، كان العشاء غالبا عبارة عن معكرونة وفخذ دجاجة قادم من وراء البحار وحبة "ماجي" تسببت لجلنا لاحقا بالقرحة المعدية(المجبنة)، المرض الذي اتخذه المواطنون غطاء يخفون تحته مشاكلهم النفسية الناجمة عن كتمان التنقاضات.
ذات ليلة أحكمنا علينا إغلاق الباب وواصلنا السهر لنلعب الورق متجاوزين منتصف الليل بساعات. فوجئنا في تلك الليلة بأصابع تطرق الباب واستغربنا الحكاية، توجسنا خيفة بأن يكون الطارق لصا من خلفه عصابة. سمع أحد الفتيان صوت امرأة وراء الباب ففتحه عنها، كانت خلفه سيدة اختفت تقاسيم وجهها في بياض المساحيق وتطاير أتربة الرمال وتعاقب الأعوام والمحن رفقة رجل يرتدي لباسا من فصيلة "أزبي" الراقية تنام داخل تجاعيد وجهه عقود عديدة من تناقضات المجتمع العميق وما زال يتمتع بلياقة نفسية وبإفراز متواصل لهرمون التستوستيرون في دمه رغم التقدم نحو الشيخوخة. حدثنا الرجل غاضبا من فعل المرأة به؛ التي استدرجته من أعماق عرفات حتى مشارف دار النعيم مقابل خدمة دفع ثمنها 2000 أوقية قديمة لنيلها وعن ضرورة ذهابنا معه لأحد مخافر الشرطة للحكم بينه وبين السيدة التي تملصت من خلوتهما عندما اقتربت لحظات تفعيل الخدمة جراء الاختلاف على إحداثياتها. الرجل المسن أراد خدمة عميقة جدا والسيدة أرادت خدمة سطحية تطبيقا لطريقة البيظان السلمية عبر العصور في ترويض الشيطان. أصر الرجل العجوز بأنه لن يبرح المكان حتى يعاد له المبلغ المذكور أو تعود معه السيدة للبقعة المظلمة لتقديم الخدمة وفق رغباته البعيدة المدى.
أثناء محاولة الفتيان تهدئة الرجل كانت المرأة تجمع بقايا عشاء  الشباب في الصحن وتأكله بكل نهم رغم اختلاطه بالحصى. بعد مفاوضات عصيبة تمكن الشباب من الفصل بينهما وجعل الرجل يعود لموطنه خالي الوفاض، وإيقاظ جارها من أجل تأمين عودة السيدة لمسكنها، والذي استغرب عدم معرفتهم بمغامراتها مع ضحاياها في سبيل تأمين الطعام لعائلتها؛ عن طريق استدراج الضحايا بحيلها في الإغراء رغم ما تحمله على ملامحها الخافتة من تجاعيد الحرمان وغبار الأمية، تخفيه غالبا بغطاء كثيف من المساحيق الرخيصة والملونة.
حدثتهم السيدة بعدها عن ظروفها الكئيبة؛ أم لبنتين من أبوين مختلفين ذاب ذكرهما بعد الطلاق داخل مسارات سرمدية من الغياب ولديها أخوات ثلاث غير عاملات ولا متزوجات ولا معيل أو سند لهن سواها! وهي لا تمتلك قطميرا، والحكومة لم توفر لها ضمانا صحيا واجتماعيا، ولا تشعر بمعاناتها المتراكمة هي وآلاف الأسر المبتورة أحد الأبوين. بعدها أخذ الفتيان يمدونها ببقايا طعامهم ونقودا خفيفة تعينها على مجابهة الفاقة.
حدثني الراوي نفسه؛ عن سيدة أخرى جاوروها في أحد أحياء الصفيح لديها تسعة أطفال تفرقت جيناتهم الوراثية بين صغار الموظفين ممن تعاقبوا عليها وكانت تظن مقدم كل واحد منهم بلسما لطلاقها من سلفه وهي بذلك تفاقم معاناتها. ذابت في ضباب الغياب عناوين من تزوجوها، وتركوا أطفالهم وهم يأكلون أحيانا بقايا الطعام التي يكبها الجيران أمام منازلهم صباحا بعد فراغ القطط السائبة من نهش لحومها ليلا.
مرة لاحظت داخل القسم الذي كنت أدرس فيه ذات سنة بعيدة وجود تلميذة ساهمة طيلة الحصص لا تجلس إلا بمحاذاة فتحة النافذة كأنها تنتظر وصول أحد ما، عندما استفسرت عن قصتها قالوا بأنها من غير المنطقة وأن والدها البيولوجي موظف عابر أتى المدينة وتزوج أمها وأنجبها ثم توارى خلف مداءات الغياب دون سؤال عنها مخلفا لها مؤخرة اسمه فقط..
القصص غزيرة في هذا المجال والمسؤولية تتأرجح بين الدولة والآباء. إن من أكثر الأشياء حرمة كما قرأنا في القرآن هو أكل أموال اليتامى بغير حق، فكيف بمن جعل صغاره الذين تسبب بمقدمهم إلى الحياة يتامى بالغياب المتعمد؟ وذلك بحرمانهم من المال والتربية وهو حي يرزق في حيز ما من الحياة.
يجب على الدولة خلق آليات متينة لحماية أبناء التفكك الأسري واللقطاء من مثالية المجتمع الجوفاء، وأن لا تدع مواثيق النكاح الغليطة والطلاق؛ مجرد قرارات أحادية يمكن ارتكابها في ظلام دامس تحت تأثير اللذة اللحظية والهروب من المسؤوليات عند تفاقمها؛ ودون رقيب شرعي ومدني يمثلها؛ خاصة الطلاق بعد إنجاب عدة أطفال أبرياء في دولة موريتانيا الشقيقة.
علينا أن نعي بأننا خرجنا من أجواء التآزر في البادية واستوطنا المدن الكبيرة، ولم تعد ثقافة الترحال في العلاقات الاجتماعية آمنة، ولقد رأيتم آثارها السلبية في السياسة والتنمية؛ لأنها لم تعمق فينا سوى التطبيل والفساد. الأخوال لديهم مشاكلهم الكثيرة، والخال بالكاد يعيل نفسه ويجد الوقت الكافي لحلاقة ذقنه ولم يعد بوسعه تمثيل دور الأب كما كان يحدث في الأيام الخوالي في المخيمات. إن الجهاد في تربية الأطفال وتعليمهم في عصرنا اليوم لهو الجهاد الأكبر. وإن كان واقع البلد الحالي بسبب الفساد؛ لا يصب في مصلحة من حصلوا على تربية تؤثر الصدق على التلون. الحياة هنا سلسلة من المتناقضات يتداخل فيها الصواب والخطأ تداخلا مريبا لا تتضح حقيقته إلا مع تراكم التجارب المكثفة. أعتقد أن موريتانيا تحتاج لصدمات قوية حتى يتحرر شعبها من الوهم والخوف والغرور.
الصورة المرفقة توضح الصيغة الكيميائية للهرمون الذي تسبب في تكاثر البشر وظهور الكثير من الحروب الطاحنة والهجرات وقصائد الشعراء والفنون الجميلة، ومؤخرا ضحايا حساب ليلى الداه المستعار، إنه هرمون التستوستيرون.
هنا نواكشوط. الساعة 20:40 وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

اثنين, 13/01/2020 - 23:01