هل يجوز نقد علماء الاقتصاد أو لومهم لأنهم لم يتوقعوا الأزمة الاقتصادية الراهنة في العالم؟ يوجد من يعتقدون أن هؤلاء العلماء مطالبون بتوقع الأزمات الاقتصادية أياً تكون عواملها قبل وقوعها. لكن الأزمة الراهنة مختلفة عن كل ما عرفه العالم من أزمات اقتصادية على مدى أكثر من قرن. لم تحدث هذه الأزمة بسبب اختلالات اقتصادية بالأساس، بل نتيجة تداعيات فيروس تحول إلى جائحة فرضت وقف الكثير من الأنشطة. ولذا فهي تختلف تماماً عن أزمة عام 2008، وغيرها من الأزمات التي حدثت منذ الكساد الكبير الذي بدأ في نهاية عشرينات القرن الماضي.
لكن هذا الاختلاف لم يحل دون لوم علماء الاقتصاد لأنهم لم يتوقعوا الأزمة الراهنة، بعد أن توسع نطاق المزاج العام المتشكك في فائدة علم الاقتصاد. وتنصب الشكوك بالأساس على حقل الاقتصاد الكلى (البعض يعده علماً فرعياً وليس مجرد فرع). ومؤدى هذا النقد أن مدارس الاقتصاد الكلي تقوم على افتراضين لم تثبت صحتهما في أي وقت: الأول أن القرار الاقتصادي يتسم غالباً بالرشد والعقلانية، والثاني أن الأسواق سرعان ما تصحح القرارات غير الرشيدة، خاصة بشأن الأسعار والأجور، وتستعيد بالتالي حالة التوازن بين العرض والطلب.
كما يتجه قدر معتبر من النقد صوب فرع الاقتصاد السلوكي، الذي يُعنى على العكس بالقرارات الاقتصادية والمالية والنقدية غير العقلانية، ويسعى إلى تحليلها، سواء أكانت من جانب المؤسسات المختلفة أو المستهلكين.
ورغم أن هذا النقد ينطوي على خلط أوراق، ولا يتضمن ما يبرر الربط بين عدم توقع الأزمات الاقتصادية، وأوجه القصور في الاقتصادين الكلي والسلوكي، فثمة مسؤولية يتعين أن ينهض بها علماء الاقتصاد للمساهمة في الخروج من الأزمة الراهنة. ويعنى هذا أنهم، وإن كانوا غير مسؤولين عن عدم توقع الأزمة، فهم مسؤولون عن المساعدة في تجاوزها. وهذا ما قصده الدكتور محمد العريان، المستشار الاقتصادي في مؤسسة أليانز العالمية، عندما تحدث مؤخراً عن السباق بين علم الاقتصاد وفيروس كورونا. وربما يكون في هذا السباق فرصة لعلم الاقتصاد وعلمائه لإقناع المتشككين في جدارته.
وإذا استُثمرت هذه الفرصة، ربما تنتهي المفارقة المدهشة المتمثلة في أن العلم الذي يتعرض للنقد والتشكيك على نطاق واسع، ويبدو علماؤه متهمين دائماً بأنهم لم يفعلوا ما يتوجب عليهم، هو الأكثر علمية بين العلوم الاجتماعية قاطبة، ولا يقتصر الأمر على الاتهام النظري، بل وصل في بعض الحالات إلى حد المحاكمة القضائية، كما حدث في حالة الخبير الاقتصادي اليوناني «أندرياس جورجيو»، عام 2010. فقد كان جورجيو يرأس دائرة الإحصاءات اليونانية. وبحكم عمله، راجع بيانات الديون اليونانية عندما طلبت أثينا مساعدة المفوضية الأوروبية، لتجاوز الإفلاس الذي ترتب على أزمة 2008. لكنه اتُهم بأنه توصل إلى نتائج مبالغة دفعت المفوضية الأوروبية إلى فرض إجراءات تقشفية بالغة القسوة على اليونان، وأُحيل على محاكمة أُدين في نهايتها بعد تبرئته في مراحلها الأولى.
وتبدو الفرصة سانحة الآن أمام علماء الاقتصاد لدحض اتهامهم بأنهم لا يقومون بواجبهم في توقع الأزمات الاقتصادية قبل حدوثها. والملاحظ أن هذا الاتهام يغفل أن بعض علماء الاقتصاد يقفون محتارين أحياناً، عندما يجدون نذر أزمة اقتصادية قادمة، بين أداء عملهم المهني وإعلان ما يتوقعونه، ومراعاة الواجب الأخلاقي الذي يفرض قياس حجم الفوائد والأضرار المترتبة على هذا الإعلان.
ويخشى من يراعون هذا الواجب أن يؤدي إعلان ما يتوقعونه بشأن حدوث أزمة اقتصادية إلى حالة هلع في الأسواق تُعجل بوقوعها، وتجعل خسائرها أكبر. وتزداد أهمية مراعاة الواجب الأخلاقي في حالة توقع أزمة قد تحدث، لكنها ليست مؤكدة، لأن إعلان هذا التوقع يجعلها واقعة لا محالة، وفق فكرة «التنبؤات المحققة لذاتها».
لكن عوضاً عن جدوى توقع حدوث أزمة أو أخرى، يواجه العلم الاقتصادي تحدياً كبيراً اليوم، إذ ينتظر منه تقديم رؤى لكيفية الخروج من رد الفعل على الأزمة الراهنة إلى الفعل، ومعالجة العوامل التي تُفاقم هذه الأزمة، وتؤدي إلى مزيد من الاضطرابات الاقتصادية، وحل مشكلة التكالب في الأسواق على السيولة، وبالتالي ارتفاع مخاطر التسييل العالمي المتزامن بسبب الحاجة إلى الوفاء بالتزامات ملحة، والسعي إلى إنقاذ شركات مهددة بالتوقف أو الإفلاس. وينطوي هذا التحدي على فرصة لعلم الاقتصاد لكي يثبت جدارته في زمن كورونا عبر طرح رؤى جديدة، ولكنها مدروسة جيداً، للإنقاذ الاقتصادي، ولإدارة الأزمات التي تنطوي على مخاطر عالمية مشتركة.
* نقلا عن "الاتحاد"