الشيخ محمد الأمين ولد لمحيميد وبكار:  

باتة بنت البراء

يَـامِــسْ عَـنـدْ الْـكَـرْكَـارْ@@ جَــاوْ اعْـلِـيــنَ خِـطَّـارْ@  
 گَــالُـو عَـنْ بِـلِّـحْـبَــارْ @@ أَهْــلُــو عَــادُو بَگَـيْـــلْ@
 وِاعْـلِـــمْ بِـيـهَـا بَكَّــارْ @@ وِاجْـحَـدْهَا بِـيهْ الْـوَيْـلْ @
ؤُلَا حَـسَّـيْـتْ إِبْـلَخْـبَــارْ@@ إِلَـيْــنْ الْـعَــادْ اللَّــيْــــلْ@
 امَّـــانَ يَـالْــمَــعْــبُـــودْ@@ لُكِنْـتْ اعْـلِمْـتْ اگْـبَيْـلْ @
عَـنْهُـمْ بَگَـيْـــلْ انْعُـــودْ@@ گَـيَّـلْـتْ الْـيَــوْمْ أَگَــيْــلْ@

تأتي الطلعه على شكل خبر سريع يلقى للمتلقي، أو نقل حي لحادثة وقعت، الهدف منها الإخبار والإقرار، لا غيرهما.
غير أن المتمعن في النص يجد أنه اتخذ بناء فنيا يكاد يكون متفردا في مدونة لغن الحساني؛ حيث اكتملت فيه عناصر السرد، وتم توظيفها باحترافية مبهرة: (الزمان - المكان - الشخصيات - الحوار- الحادثة - الأزمة - النهاية).
وليست السردية غريبة على الشعرية؛ بل إن بين الحقلين أواصر قربى وتعالقات تجعل من حوارهما مظهرا لثراء وتنوع  الأساليب  في اللغات الحية.
 فليست ﺍﻟﺴﺭﺩﻴﺔ إلا فرعا من أصل كبير هو الشعريةُ، وعودة إلى الشعر العربي الذي انبثقت اللهجة الحسانية من لغته، شهيد على ما نقول؛ فجل القصائد التي نحتفي بها، ذات ملامح سردية واضحة:
وَيَوْمَ دَخَلْـتُ الْخِدْرَ؛ خِـدْرَ عُنَيْزَةٍ *** فَقَالَـتْ: لَـكَ الْـوَيْـلَاتُ إنَّـكَ مُـرْجِلِي
تَـقـولُ وَقَـْد مَـالَ الْغَبِيـطُ بِنَا مَعًا: *** عَقَرْتَ بَعِيري يَا امْرَأَ الْقَيْسِ فَاْنِزلِ
فقلـتُ لهَا سِيـرِي وَأَرْخِي زِمَامَهُ *** وَلَا تُـبْعِـدِيـنِي عَـنْ جَـنَـاكِ الْـمُعَـلَّـلِ ...

وتستمر المعلقة الطويلة وصفا لوقائعَ، واستذكارًا لأحداثٍ، وحوارًا لخليلاتٍ وخِلَّانٍ حتى نهايتِها، وكلُّها عناصرُ سردية لا غبار عليها.

وبدورها تظهر القصيدة الشعبية حضور السمات السردية فيها؛ فطلعة الغزل؛ وصف للحالة العاطفية والمعاناة، وطلعة الرثاء؛ رصد لشمائل الراحل وَتَأّسٍّ عليه، وطلعة النسيب؛ استذكار لماضٍ وَلَّى، وحديثٌ عن ذكرياتٍ:
 
سُـبْـحَــانْ اللَّـهْ أَلَّ تُــبَّـــاعْ @@ إِگِـلِــيـــدْ، ؤُحُـكْــمْ إِگِــلِــيـــدْ @ 
اتْـلَ مَـا لَاهِـي فِـيهِـمْ گَـاعْ @@ حَدْ إِشُوفْ اخْيَامْ أَهْلْ احْمَـيْــدْ@
دَارْ اتُّـــبَّــاعْ أَلَّا ظَـلَّــيْــتْ @@ نِـسَّـدَّرْ فِـيـهَـا، وِاتْـمَـشَّــيْــتْ @
عَنْهَا، وِاعْگَبْتْ الْهَا وَلَّيْتْ @@ ؤُعَـارِفْ عَـنْ ذَ مَاهُـو مُـفِـيـدْ@
غَـيْـرْ أَلَّا ذَاكُو گِـدْ اتْلَـيْتْ @@ إللِّي بَـاگِـيـلِي عِـدْتْ إِفْ لَـيْـدْ @

 فقد نقل لنا صاحب النص السايق، في لحظة استعبار متأنٍّ بالمكان، كلما فعل، وكلما أحس.

 غير أن تكامل عناصر السرد في طلعة واحدة محدودة الطول، هو ما يستوقف عند ولد لمحيميد، فقد نقل لنا حادثة آنية، دارت أحداثها خلال أقل من يومين:
(يامس - الليل - اگْـبَيْـلْ -  الْـيَـوْمْ)، فَمَقْدَمُ الضيوف؛ من حملوا خبر ترحل القوم عن ديارهم حدث بالأمس، ومعرفة الشاعر النبأ جاءت ليلا، في وقت متأخر، كما نفهم من السياق، وأمنيته التي ثبطها إخفاءُ بكار الخبر، كان يمكن أن تتحقق زوال هذا اليوم.
 كما أطرت القصة ثلاثةَ أمكنة، تفاوتت مركزيتُها في النص: (الْكَرْكَارْ- بِلِّحْبَارْ- أَگَــيْــلْ )؛ 
ف "الكركار" مكان قَطَنِ  الشاعر أيام الحادثة، وهو مكان يحمل معناه اللغوي دلالة التحول ومباغتة الأمور المربكة، ويوحي جرس حروفه بالمباغتة والفزع؛ وبالفعل فقد حمل القوم إلى هذا المكان خبر رحيل أهل "بلحبار"، وأخفيَ الأمرُ عن الشاعر لمدة وجيزة في حساب الزمن العادي، ولكنها دهر بكامله بالنسبة له هو، فلم يعرف إلا متأخرا نبأ نزول القوم بالمكان. 

أما "بلحبار" فكان ماركة أو علامة مميزة؛ فهو ليس المكان الرحب الذي يتنقل فيه البداةُ للنجعةِ، ولا الأحياءُ المختلفةُ للإقامةِ ، وإنما تقلصَ واخْتُزلَ ليدل على ذات واحدة هي محبوبة الشاعر.
 
أما الغالي المنشود؛ "أَگَــيْــلْ" فهو الاسم المصغر الخفيف عند النطق، والجنة الموعودة التي يجب أن تدرك وينعم المحب بالوصول إليها، وقد جاء ذكره ثلاث مرات في النص لمكانته ومنزلته لدى الشاعر.
وتأتي الشخصيات موحية دالة: ( جماعة الشاعر- الخطار- أهلو - بكار – الشاعر)
لقد أدت هذه الشخصيات أدوارا حيوية في تنامي السرد؛ فجماعة الشاعر هم الحاضنة التي احتضنت  الضيوف، واستقبلت النبأ، والخطار هم القناة الإعلامية في عالم البادية الرحب، فمع كل ضيف خبر جديد،  أما بكار فكان البطل المناوئ للبطل الرئيس: الشاعر، لقد اجتهد بكار في إخفاء قدوم "أهل بلحبار" عن ولد لمحيميد، ويظل السؤال معلقا في ذهن المتلقي عن سبب هذا الإخفاء:
-هل ينافس بكار الشاعر على حب أهل بلحبار، وهو غريم منافس له عليهم فيتقصد إبعاده؟
-أم أن بكار صديق وفي للشاعر يجد في صحبته الألفة والود، ولا يريده أن ينشغل عنه بالآخرين؟
-أم أن بكار يعرف الموانع الشرعية والاجتماعية التي تحول دون حب صاحبه، فلا يريد له أن يتورط في السفرة؟
- أم أنها مجرد مداعبة بين صديق وصديقه، ما تلبث أن تكشف الحقيقة؟
كلها أسئلة واحتمالات واردة يفتحها أمامنا النص، ويتيحها التأويل، خصوصا أنه نعت صاحبه بأنه صاحب " بيه الويل".
وهذه العبارة ذات مركزية دلالية عميقة في النص؛ فإذا كان الويل في اللغة يرادف العذاب والثبور، فإن تصرف شعراء اللهجة الحسانية أفرغه من دلالته الأصلية وشحنه بدلالات مختلفة حسب مبتغاه؛ فهو عند أحمدو بنمب ول ألمين مرادف ل: "لحشيش، أو توكَـه، أو ازبل" التي تقال غالبا تحببا وملاطفة لمن ضحك: 
 
 رِدِّيـلِي يَـكْـطَـعْ بِـيــكْ @@ عَگَـلِي مِـنْـتْ الْـفُـظَـيْـلْ @
مَـانِي ظَــاحِكْ يِخْلِيـكْ @@ مِـنْـتْ الْـفُـظَـيْـلْ الْــوَيْــلْ@

أما "ويل بكار" فهو من نوع آخر؛ إنه المهارة في الخداع والمكر، أو بالحسانية "مِتْنْ الْخَبْرَه فِالْمِصْـرِي وِالْـمِگْـدَيْلْ " ولذلك فإنه الصاحب الذي لا تؤمن بوائقه.

وقد ظهر الشاعر البطل المقدام الذي لا يتنازل عن مرامه، ويظهر تأسفه العميق في نهاية النص تشبثه بالقادمين، وخرقه العادات في الإتيان إليهم جهارا نهارا، خلافا للسائد في المجتمع البدوي، حيث يتحين القادم تأخر الليل، وهجوع السامرين، ليأتي متسترا متخففا، كما يصف ابن أبي ربيعة:
فَـلَـمَّا فَـقَـدْتُ الصَّوْتَ مِنْهُمْ وَأُطْفِـئَـتْ *** مَـصَابِيـحُ شَـبَّتْ فِي الْعِـشَاءِ وَأَنْـوُرُ
وَغَـابَ قُـمَـيْـرٌ كُـنْـتُ أَرْجُـو غُـيُـوبَهُ *** وَرَوَّحَ  رُعْــيَــانٌ وَنَـــوَّمَ سُــمَّـــــرُ
وخُفِّضَ عَـنِّي النَّـوْمُ أقْـبَلْـتُ مِشْيَةَ الْــــــــحُــبَــابِ  وَرُكْـنِي خَشْيَةَ الْحَيِّ أَزْوَرُ

إن طريقة بن أبي ربيعة في طروق القوم، والحذر الزائد الذي يعتمد مختلف تمام الاختلاف عن منهج ولد امحيميد؛ فهو سيأتي نهارا سافرا غير هياب  ولا  وجل، ويتقصد أن يعرف كل الحي أنه المحب الجسور، فنجده يقول في آخر الطلعه:

امَّـــانَ يَـالْــمَــعْــبُـــودْ@@ لُكِنْـتْ اعْـلِمْـتْ اگْـبَـيْـلْ @
عَـنْهُـمْ بَگَـيْـــلْ انْعُـــودْ@@ گَـيَّـلْـتْ الْـيَــوْمْ أَگَــيْــلْ@

فالرجل يشهد ربه - وكفى به شهيدا- أنه لم يعرف عن مجيء القوم إلا متأخرا، وإلا لكان  مقيله عندهم، ونجد في قوله: " يالمعبود" الكثير من الصدق، وإبعاد الشبهة عن نفسه بأنه قصد التأخر في ملاقاتهم، خلافا لابن أبي ربيعة الذي توخى الحذر واختار الليل.
ومع هذا فإن الشاعرين عمر بن أبي ربيعة، ومحمد الأمين ولد لمحيميد، يلتقيان في خاصية فنية أكيدة، وهي القدرة على توظيف السرد القصصي في النص الشعري بطريقة ناجحة ومعبرة، من أجل تحقيق غاية جمالية وتأثيرية مكينة.
وإذا كان الأسلوب الواقعي طبع نص ولد لمحيميد، فإن المفارقة الجميلة أنه ترك النص غفلا من التحديدات؛ فلم يعين المقصود من أهل بلحبار، ولم يذكر طبيعة الويل في بكار، ولم يحدد الهدف من الرحلة التي اعتزم، كلها كانت إشارات وإلماحات تعطي القارئ فسحة للتفكير والتأويل.

إنه نص مكتنز في واقعية، رامز في تصريح، سلس القياد أسلوبا وإيقاعا، متفرد بتشكله السردي الأخاذ.

اثنين, 29/06/2020 - 17:41