القضية تحولت إلى أمنية بامتياز… مسؤولون أمريكيون سابقون، لم يكتفوا بالإشارة إلى قمة هلسنكي بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين الاثنين باعتبارها كارثة سياسية للأمريكيين وإهانة لمركزهم الدولي ولمؤسساتهم في وجه رئيس روسي صلب وغير مستعد لأي تنازلات ولو لفظية، بل تحول عند بعضهم إلى إشارات أكثر حدة وتتعلق مباشرة بشخص ترامب ومدى إخلاصه لبلده وهو أمر لا يعرف التاريخ الأمريكي الحديث وضعا شبيها له.
ضربة البداية كانت من مدير المخابرات المركزية السابق جون برينان وقذف بها إلى أعلى نقطة ممكنة: يجب عزل ترامب، وأداؤه في هذه القمة يتجاوز حد الجريمة الكبرى والإثم بل والخيانة. بعده تتالت الضربات ومن مسؤولين أمنيين وعسكريين سابقين بارزين، أقربها إلى ما سبق قول العضو الجمهوري في الكونغرس ويل هارد إنه « خلال مسيرتي كضابط استخبارات، شهدت تلاعب عملاء الاستخبارات الروسية بأشخاص عديدين، ولكنني لم أتوقع يوماً أن يكون الرئيس الأمريكي من ضمن هؤلاء».
وزير الدفاع الأمريكي السابق (في عهد الرئيس باراك أوباما) تشاك هيغل، قال إن «الرئيس ترامب خذل الولايات المتحدة ومصالحها، وهذا يوم حزين لنا وللعالم» معتقدا أن «الوقت قد حان ليتدخل الكونغرس وأخشى أنه في حال لم يتدخل ستكبر هذه المشكلة وسينتهي بنا الأمر بدون حلفاء لنا في العالم، ونحن نتجه إلى هذا المصير، حيث لم يعد أحد يعتمد علينا أو يثق بنا». أما وزير الدفاع الأمريكي السابق (في عهد الرئيس بيل كلينتون) ويليام كوهين فيرى أن «الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يجد صعوبة في تحليل الأوضاع وتسمية الأمور بمسمياتها (…) وبالتالي حينما يقول الرئيس إن الولايات المتحدة ساهمت في هذا الجفاء الطويل في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، فإن هذا دليل تنازل من ترامب عن صلاحياته كرئيس». ويضيف كوهين «أصبحنا أضعف على الصعيد السياسي، وما يفعله الرئيس الأمريكي حاليا هو قلب للحقائق وتخل عن قيمنا ومبادئنا، وأظن أن لدى الجميع سببا للقلق مما يحدث ومن خسارتنا لقيم دولتنا وتخلينا عن مجتمعنا الاستخباراتي الذي بدونه نصبح عراة أمام أعدائنا».
وإذا كان برينان صرخ محتجا «أيها الجمهوريون الوطنيون.. أين أنتم؟؟!!» في دعوة صريحة لقادة حزب الرئيس للتحرك والتمرد على هذا الوضع الذي رآه مزريا ومذلا، فإن البعض الأخير بدأ يشير، وبدرجات متفاوتة القوة، إلى ضرورة تدخل الكونغرس لردع الرئيس وحتى عزله بعد أن وصلت الأمور إلى حد استعداء الحلفاء في أوروبا والناتو ومهادنة روسيا وحتى كوريا الشمالية، فهيغل مثلا اكتفى بالقول إن «على الكونغرس القيام بما يعتقد أنه من مصلحة الولايات المتحدة ومستقبلها» دون أن يفصل أكثر.
ما أثارته قمة هلسنكي من غضب سيزداد أكثر مع الأيام مختلف، تماما ونوعيا، عما سبق أن واجهه ترامب في السابق. الآن لم يعد الرجل يوصف بالمتعجرف فقط والأرعن، وغير المتزن في تصريحاته وتصرفاته، والمعادي للصحافيين، والمقدم على تصرفات حمقاء تخص مساعديه الذين عملوا معه في الحكومة وفي البيت الأبيض، والمناهض للأجانب والأقليات والمرأة و للتحقيقات القضائية الجارية حاليا في بلاده بخصوص التدخل الروسي في الانتخابات الأخيرة… لم يعد يوصف بكل ذلك فقط، بل تحول الأمر الآن إلى الطعن في وطنيته وفي جدارته بأن يكون رئيسا يدافع أولا وقبل كل شيء عن مصالح بلاده.
نظرة سريعة على عناوين مقالات وافتتاحيات الصحف الأمريكية الصادرة بعد قمة هلسنكي تظهرها جميعها تصب في هذا الاتجاه ففي صحيفة «نيويورك تايمز» نجد «ترامب يظهر للعالم أنه كلب بوتين المدلل» و«لماذا لن يتحدث ترامب باسم أمريكا في لقائه مع بوتين»، وفي «واشنطن بوست» نرى أن «ترامب تواطأ مع روسيا علنا»، فيما عنونت «ذي إنترسبت» أن «المخابرات الأمريكية كان لديها قاعدة ضد لقاء المخابرات الروسية على انفراد لكن ترامب تجاهلها باستهتار مع بوتين».
الأغلب أن ترامب ارتكب في قمة هلسنكي غلطته القاتلة، لقد أذل الولايات المتحدة وصفع كبرياءها وهذا ما لا تتحمله الطبقة السياسية الأمريكية والمؤسسة الحاكمة بجمهورييها وديمقراطييها، خاصة وأن هذه القمة تأتي بعد قمة الحلف الأطلسي وزيارة الرئيس الأمريكي إلى بريطانيا وكلاهما أظهرا كم باتت القيادة الأمريكية محل كره وريبة في نفس الوقت. هؤلاء حلفاء واشنطن التاريخيين عبر عقود فما بالك بمن له معها حسابات قديمة؟!!
الطعن في وطنية ترامب طعنة قاتلة ليس من السهل له التصدي لها أو الشفاء منها سريعا، خاصة وأنها أعادت إحياء تكهن قديم، لا دليل عليه حتى الآن، مفاده أن بوتين يمسك على ترامب مذلة ما يبتزه بها، وأن هذا الابتزاز يزداد افتضاحا مع كل لقاء.
القد س العربي