حدث ذلك قبل 26 عاما بالتمام والكمال.. يوليو/ تموز 1992 كان شهرا لا ينسى بالنسبة إلى الصحافيين التونسيين وجموع المراسلين الأجانب في العاصمة التونسية. كان الناس يتوجهون صباحا إلى الاستمتاع بالبحر والمنتجعات السياحية فيما هم يتوجهون، منذ التاسع من هذا الشهر الحار وحتى آب/أغسطس، إلى مقر المحكمة في الثكنة العسكرية بضاحية باردو لمتابعة وقائع محاكمة قيادات وكوادر حركة النهضة الاسلامية المتهمين بمحاولة قلب نظام الحكم.
كانت تلك المحاكمة في تونس علامة فارقة، أغلقت قوسا وفتحت آخر، أغلقت قوس الانفتاح السياسي والاعلامي الذي أعقب تسلم بن علي مقاليد الحكم في نوفمبر/ تشرين الثاني 1987 إثر «انقلاب طبي» أطاح بأب الاستقلال وباني تونس الحديثة الحبيب بورقيبة الذي أنهكه المرض فأنهك البلاد معه، وفتحت قوس القمع السياسي الذي بدأ بالاسلاميين ليلـــتهم الجميع في نهاية الأمر.
وباستثناء «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان» وقلة قليلة من الشخصيات السياسية المستقلة وبعض الأحزاب السياسية على استحياء، لم ير كثير من الناقدين أو من المختلفين بدرجة أو بأخرى مع الاسلاميين التونسيين أن ما يجري لهؤلاء ما هو في الحقيقة إلا مقدمة لتصفية كل الخصوم السياسيين على مراحل. البعض فضل الصمت خوفا أو طمعا، والآخر شمت سرا أو علانية، فيما لم يكن لدى آخرين سوى الامتعاض دون تحريك ساكن. لكل هذا سارت الأمور بلا ضجيج، وخاصة وأن موسم الإجازات والعطل المدرسية والجامعية و المهرجانات والسهرات كان كفيلا لوحده بتهميش محاكمة خطيرة كهذه.
وبانتهازية بلهاء ظن البعض أن بن علي، وبعد التخلص من الاسلاميين، سيرسي ديمقراطية جميلة لا مكان فيها لأعداء الديمقراطية، كما كانوا يرددون، فما كان من الرجل إلا أن انقلب لاحقا على الجميع، حتى من بين أولئك الذين أسرفوا في الولاء له.
وكنا نرابط اليوم بأكمله نتابع جلسات المحكمة بين مرافعات النيابة والدفاع وأقوال المتهمين والشهود حتى صدرت في أغسطس/ آب تلك الأحكام القاسية على 256 من قيادات وأعضاء الحركة وبعضها بالسجن المؤبد. كانت أحكاما صادمة لأننا لم نلمس، صحافيين تونسيين وعربا وأجانب، أن القضية مقنعة أو أن لها مرتكزات وجيهة، فضلا عما رواه أغلب المتهمين من تعذيب شنيع تعرضوا له لانتزاع اعترافات أنكروها أمام القاضي حتى أن بعضهم أوتي به إلى القاعة على كرسي متحرك لأنه لم يكن يقوى على الوقوف.
و لم يكن راشد الغنوشي بين أولئك الذين حوكموا فقد كان غادر قبل ذلك البلاد إلى الخارج بطريقة قانونية ولم يعد، لكن كان هناك أغلب قيادات الصف الأول وعدد من الكوادر الوسطى والمحلية. لقد كان بعضنا من السذاجة ما جعله يعتقد أن القاضي، الذي كان للأمانة يستمع مطولا لمرافعات المحامين والمتهمين دون مقاطعة ولا استفزاز، سيصدر أحكاما مخففة، إن لم يكن سيبرئ ساحة الأغلبية، خاصة وقد لمس بنفسه، كما لمس الجميع وقتها، تهافت الاتهامات حتى ذهب في ظن بعضنا أن اعتذارا ما قد يقدم للمتهمين مع قبلة على الجبين!!
ومنذ تلك الصائفة لم تعد تونس كما كانت، ولا كان بامكانها أن تصبح كما تمناها كثيرون، تبخرت وعود «العهد الجديد» التي بشر بها بن علي، شُرع في تضييق الخناق على كل العائلات السياسية من يساريين وقوميين وليبراليين ونقابيين، كما شرع في انتهاج أقذر الوسائل في «الاغتيال السياسي» للمعارضين عبر فيديوهات جنسية مختلفة كان رجال أمن بزيهم الرسمي يوصلون أشرطتها إلى مقرات الصحف، فيما يتكفل آخرون من موالي السلطة والفضوليين بترويجها بين الناس!!.
ومنذ تلك الصائفة، التزمت أحزاب المعارضة الكرتونية الأدب بالكامل، فيما ساءت علاقة السلطة بالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، أول وأعرق منظمة من نوعها في القارة الإفريقية، كيف لا وقد كانت تشهّر وتدين كل الانزلاقات التي سارت عليها البلاد ما جعل بن علي يقر العزم على اختراقها وتقسيمها ونزع الشرعية القانونية من هيئتها، وهو الوضع الذي استمر لسنوات رغم ضغوط كل المنظمات الحقوقية الدولية قبل أن يتم التوصل بعد بضعة أعوام إلى صيغة حل أعادها إلى النشاط القانوني من جديد.
ومن قال وقتها إن هؤلاء الذين زج بهم في السجون يمكن أن يصبحوا يوما رؤساء حكومات مثل حمادي الجبالي أو علي العريض الذي وضع في زنزانة انفرادية لـــ 13 عاما كاملة!!؟ ومن قال إن رفاقا لهم سيصبحون نوابا في البرلمان ووزراء!!؟ بل من قال إن رئيسهم الذي حوكم غيابيا سيعود إلى البلاد ليصبح لحزبه مقرا ووزنا ويصبح هو اليوم من أعمدة الحكم التي يقرأ لها حساب… في حين أن من زج بهم وراء القضبان يعيش لاجئا في السعودية وتلاحقه أحكام بالسجن لا أول لها ولا آخر…. سبحان مغير الأحوال.
القد س العربي