الجزائر والمغرب: جاء دور المثقفين

محيي الدين عميمور

توقفت عن الكتابة منذ الاعتداء على المنطقة العازلة جنوب الصحراء الغربية، وبغض النظر عمن أشعل النار بدا أن دخانها المتكاثف يحجب تحركات مريبة تؤكدها كتابات وتصريحات تصب الزيت على النار، وتُحول الاختلاف إلى خلاف والخلاف إلى صراع.

ولم أكن أريد، وأنا أعرف كل معطيات القضية، أن أنجرّ إلى مهاترات لفظية كان هناك من يدفع نحوها بشراسة عجيبة تستنسخ وضعية العداء المغربي الجزائري الذي عرفته عقود ماضية، وكاد يصل بالأمور إلى ما هو أسوأ من الصراع الألماني الفرنسي في القرن الماضي، لولا حكمة كل من الرئيس الجزائري هواري بو مدين والعاهل المغربي الحسن الثاني رحمهما الله، اللذان حرصا على ألا يتجاوز الصراع الخط الأحمر.

وأستل اليوم قلمي بتشجيع غير مباشرٍ من كتابات الأستاذ عبد السلام بنعيسى، الذي رأيت أنه يعبر في مقاله بالأمس عن التوجه الوطني للمثقف الواعي في المغرب العربي، وبغض النظر عن أي تحفظات يجب تفهمها من الجانبين.

ويمكن أن نختلف مع الأشقاء في المغرب حول التعامل مع عدد من القضايا التاريخية، لكن هناك نقاطا رئيسية لا يمكن أن يختلف حولها وطني عاقل، أهمها أننا نعرف أن المنطق الوحدوي هو السائد عند الجميع، وليس سرا أن تعبير “المغاربة” يستعمل، خصوصا في المشرق العربي، للدلالة على كل المناطق الواقعة غرب ليبيا، وكان  الخطاب الوطني يتغنى دائما بوحدة المغرب العربي، وخصوصا منذ أن تكونت حركة “نجم شمال إفريقيا” في فرنسا خلال العشرينيات من القرن الماضي، وأقيم مكتب المغرب العربي في الأربعينيات على أرض الكنانة بقيادة الأمير محمد عبد الكريم الخطابي،

ومعه المغربي علال الفاسي والتونسي الحبيب بو رقيبة والجزائري الشاذلي مكي، الذي خلفه كل من أحمد بن بله ومحمد خيضر وحسين آيت أحمد.

وارتبط بالجميع في الخمسينيات الشيخ البشير الإبراهيمي والفضيل الورتلاني..

وكان من أبرز الدلالات على إيمان الشعوب بوحدة المغرب العربي  احتضان كل من تونس والمغرب وليبيا للثورة الجزائرية، وأقول .. “احتضان”، حيث كانت القاعدة الخلفية للثورة الجزائرية، بدرجات مختلفة، مرتبطة بالقرب من ميدان المعركة.

ولأن الحديث هو عن المغرب فإن تقديرنا للشعب هناك كان بدون حدود، وكان موقفه ضد الظهير البربري في الثلاثينيات موقفا لا نتوانى عن التذكير به كلما بدا للبعض أن يشكك في وحدة الشعب والتزامه مع قيمه الروحية، وكان من علامات التقدير أن شارعين في قلب  العاصمة الجزائرية يحملان اسم كل من السلطان محمد الخامس والأمير عبد الكريم الخطابي، وهما الاسمان العربيان الوحيدان في شوارع الجزائر.

ووقفتْ بعض التناقضات العربية ضد استعمال أسماء عربية أخرى، حيث أن تكريم زعيم كان سيؤدي إلى غضب زعيم آخر، وكمثال على ذلك، ردود الفعل المحتملة على تسمية شارع أو ميدان باسم صالح بن يوسف أو عبد الكريم قاسم أو الملك فاروق أو مصطفى النحاس أو الملك إدريس السنوسي…وقائمة من وقفوا إلى جانب الجزائر طويلة.

وتأتي هنا النقطة الجوهرية التي تتهم الجزائر بأنها تسعى لإضعاف المملكة.

وللتذكير أعود إلى بداية السبعينيات، حيث كانت العلاقات الجزائرية المغربية تمر بفترة من الهدوء أسميتها “السلام البارد”، في مقارنة بتعبير “الحرب الباردة”، حيث ساهمت لقاءات تلمسان وإيفران بين الرئيس بو مدين والملك الحسن الثاني في قلب صفحة ما عرفته العلاقات إثر ما حدث في أكتوبر 1963، ولن أدخل في تفاصيله المعروفة.

كان الرئيس بو مدين يؤمن بأن الخروج من مرحلة التخلف وتحقيق الانطلاقة الاقتصادية الاجتماعية في الجزائر يرتكزان على ضمان الاستقرار في الجزائر وحول الجزائر، ويدرك بأن حدود الأمن القومي تتجاوز الحدود الجغرافية للبلاد، ومن هنا كان يتابع الأحداث التي تمر بها المنطقة المحيطة بالجزائر بكل دقة واهتمام.

وعندما حدث انقلاب “الصخيرات” في يوليو 1971 ظل الرئيس بو مدين طوال اليوم قلقا إلى أن تمت إقامة اتصال هاتفي مع الملك الحسن الثاني، وكان هو أول من تحادث معه وطمأنه إلى دعم الجزائر.

وأتذكر حديثا هاتفيا تابعته يومها شخصيا بين الرئيس والعقيد القذافي، كان فيه بو مدين بالغ الهدوء في البداية، ثم بدأ يتصرف بنوع من ضيق الصدر وهو يكرر عباراته.

ولم أكن أسمع ما يقوله العقيد، لكنني كنت أتابع ما يقوله الرئيس ويكرره من أن القضية هي انقلاب قصر وليس ثورة شعب، وليس هناك ضباط أحرار ولا عهد بائد ولا هم يحزنون.

 

واختتم الرئيس المكالمة ليلتفت نحوي قائلا وكأنه يحدث نفسه : العقيد يريد موافقة الجزائر على عبور طائراته عبر أجوائها لقنبلة الصخيرات والقضاء على “العهد البائد” كما يقول.

وأتذكر أنني قلت يومها للرئيس بأن هذا الموقف سيكون فرصة لجنرالات المقاهي لاتهام الجزائر بدعمها للملكيات الرجعية، فيردّ الرئيس قائلا إن “استقرار المغرب هو رهن باستقرار العرش المغربي، وهذا كله ضمان لاستقرار الجزائر”، وهو ما كتبته منذ سنوات.

وواضح أن الرئيس الجزائري لم يكن، كما يدعي البعض، يتصرفُ انطلاقا من تطلعات تسلطية تريد أن تكون للجزائر اليد العليا في المنطقة، فقد كان رجلا ذا نظرة إستراتيجية تفهم معنى التوازن وتدرك متطلباته، على مستوى الوطن أو على الساحة الإقليمية والدولية.

كان بو مدين يرى أن الجار القوي يبعث على الاطمئنان أكثر بكثير من الجار الضعيف، لأن التعامل معه يكون دائما على أساس قواعد واضحة متفق عليها، تضمن المصلحة المشتركة والمنافع المتبادلة، ووجود أي قطر مجاور في وضعية ضعف يمكن أن يكون ثغرة يتسرب منها النفوذ الأجنبي، لأن الجار الضعيف قد يلجأ إلى الابتزاز واللعب على عناصر التناقض بين دول المنطقة.

ولكنني أقول أيضا أنه كان في الوقت نفسه يرفض أن يفكر أحد في تجاوز الجزائر أو تجاهل وجودها أو ممارسة سياسة الأمر الواقع معها، ولم يكن ممن يقبلون ركوب القطار بعد انطلاقه.

وهنا يأتي السبب الحقيقي في كل توتر شهدته العلاقات بين المغرب والجزائر، وهو الرفض المطلق لأسلوب الأمر الواقع الذي يفرض به طرف على الطرف الآخر رأيه وإرادته بمبادرة منفردة.

ولعل أوضح دليل على هذا ما حدث إثر مبادرة الأشقاء في المغرب بفرض التأشيرة على الجزائريين بعد اتهام بعضهم، ظلما، بعمليات إرهابية في مراكش، حيث لم يكن الرد الجزائري مجرد فرضٍ للتأشيرة على المغاربة وإنما أيضا بغلق الحدود البرية التي لا زالت مغلقة إلى يومنا هذا منذ منتصف التسعينيات.

ويعبر رفيق مشرقي عن الوضع بقوله ضاحكا إن الجزائر لا تعمل بمبدأ: من ضربك على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن، ولكن بمبدأ: من صفعك على خدك الأيمن فعاجله بعدّة لكماتٍ على خده الأيسر.

  والذي حدث، وكنت تناولته أكثر من مرة، أن دعم الجزائر لحركة “البوليزاريو” انطلق في بداية السبعينيات على أساس أنها حركة تحرر ضد الوجود الأسباني، واستمر ذلك إلى أن اتخذ المغرب في منتصف السبعينيات سلسلة من الإجراءات انتقل بها من المناداة بتبعية موريطانيا للمغرب إلى

اقتسامه الصحراء معها، ثم إلى رفض القبول برأي محكمة العدل الدولية التي رفضت نظرية السيادة المغربية على الصحراء الغربية، وطلع الأشقاء بفكرة المسيرة الخضراء، وهي عملية إعلامية رائعة لم تواجه الأسبان الذين كانوا، آنذاك وقبل وفاة فرانكو، يحتلون المنطقة.

وحدث لقاء مدريد، ونقلت الإدارة إلى المغرب الذي أراد اعتبارها نقلا للسيادة، وهناك فقط تطابق الموقف الجزائري مع موقف العقيد القذافي، الذي كان، للأمانة، أول من دعم البوليزاريو.

وتدهورت العلاقات أكثر فأكثر، غير أنني كنت دائما أحاول مع العديد من المثقفين تجاوز المواقف الرسمية بآراء تحاول أن تقرّب بين الأطراف المتناقضة.

وقلت في حديث نشرته صحيفة الأيام المغربية في سبتمبر 2016: “لكي تستطيع الطبقة المثقفة أن تقوم بدور فعال في تحقيق التقارب والانسجام بين البلدين يجب على القيادات السياسية أن تحرّر المثقف من عبودية الارتباط المطلق بالرأي الحكومي، ويجب على المثقف أن يدرك أن من حقه أن يجتهد بما لا يتعارض مع المصلحة العليا للمغرب العربي، ومن حقه أن يخطئ بدون أن يُخوَّن أو أن يُجرَّم، ومن هنا جاء اهتمامي اليوم بما تفضل به الأستاذ بنعيسى.”

ولعلي أذكر من جديد بما يتجاهله البعض من أن الجزائر لم تطالب يوما باستقلال الصحراء الغربية، وإن كانت أيضا لم تقبل الاعتراف بمغربيتها إلا أن يأتي ذلك نتيجة للاستفتاء الذي أوصت به الشرعية الدولية، أي أن موقف الجزائر هو احترام إرادة الشعب المعني في المنطقة المتنازع عليها باعتراف الجميع، بمن فيهم، ضمنيا، الرئيس الذي أعطى العالم أوضح مثال للصعلكة السياسية.

وقلت يومها ما نشرته الصحيفة المغربية بكل شجاعة:  القول بأن “نزاع الصحراء” هو النقطة الخلافية بين المغرب والجزائر هو أمر غير صحيح من وجهة نظري، فواقع الأمر أن القضية هي قضية ثقة مفقودة على كل المستويات.

فالشعور الذي يتملكنا في الجزائر هو أن المغرب يعمل لفرض أمر واقع يحقق به “مفهومه” لحقوقه التاريخية، طبقا للتعبير الذي سمعته من الملك الحسن الثاني في لقاء نيروبي 1981، والذي شارك فيه الرئيس الشاذلي بن جديد، رحم الله الجميع.

ومن هنا بدت قضية الصحراء كتعبير عن استمرار سياسة الأمر الواقع التي رفضناها دائما منذ استقلال موريطانيا ثم أحداث أكتوبر 1963، والتي لا أريد أن أجتر تفاصيلها، وحاولنا دائما تجاوز كل ذلك سعيا وراء تحقيق الوئام في المنطقة.

وكنت تناولت اقتراح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب، وأنا أعرف جيدا بعض الظروف الدولية المرتبطة به، وقلت بأنني رأيت فيه اقتراحا شجاعا، رغم علمي بأن هذا الموقف لا يتطابق تماما مع الموقف الرسمي لبلادي بقدر ما يمكن أن يتناقض مع رجال الشهيد مصطفى الوالي، وكنت أتمنى لو

كان هناك موقف مماثل لمثقفين مغاربة، يخرج، ولو لسنتيمترات قليلة، عن الموقف الرسمي للقصر ، وأن يكون هناك من يتجاوب مع اقتراحي بأن تكون فكرة الحكم الذاتي واحدة من اختياراتٍ ثلاثة، إلى جانب الاستقلال الكامل أو الانضمام الكامل للمغرب، ويتزامن ذلك مع بذل جهد خلاقٍ لكسب

ثقة من رفعوا السلاح للدفاع عما يرونه حقا مشروعا يهتدي بالشرعية الدولية، بدلا من المزايدة بطروحات لا يمكن أن يقبلها حتى من يرضى بمجرد الحفاظ على ماء وجهه.

ولم يكن من الممكن أن تتنكر الجزائر لحظة واحدة لتحالفاتها المنطلقة من المبادئ التي تنادي بها وتدافع عنها، وهنا تبدو أهمية الحوار النزيه الذي يقود إلى التوافق الحقيقي بين كل الأطراف، بعيدا عن المزايدات والمناقصات، وبوجه خاص بعيدا عن كل التدخلات الخارجية، وخصوصا تلك التي تتصرف بأسلوب إزعاج جارة لجارتها لمجرد الانتقام السوقي.

وأكرر ما قلته منذ سنوات من أن: التدخلات الخارجية أفسدت كل شيئ، وسوء التفاهم الكبير نتج عن محاولة فرضِ أمرٍ واقع لا أرى داعيا لاجترار كل تفاصيله”.

وهنا أعود لما تفضل به الأستاذ بنعيسى، ولا أرفض ما قاله من أنه: “توجد في الجزائر كما في المغرب أطراف ترفض فكرة التغلب على الخلافات القائمة بين البلدين، هذه الأطراف تكرّسُ هذه الخلافات وتنفخ فيها، لأنها تستمد منها السلطة والثروة، وليس من مصلحتها تطبيع العلاقات المغربية الجزائرية، وأضحت تلكم العناصر بمثابة خصوم حقيقيين لفكرة المغرب العربي، خصومٌ يتصدون لكل إمكانية للتقارب بين الرباط والعاصمة الجزائرية، ويتعين الانتباه إلى هؤلاء والاحتياط منهم، فهم من النافذين في السلطة في كلا الدولتين..”

ولعلي أذكّر هنا بأنني كنت اقترحت، كتابيا، أن يلتقي الرئيس الجزائري بالملك المغربي على انفراد، وبعيدا عن الإعلام وعن المساعدين، وكنت في ذلك أسترجع اللقاء المغلق بين دوغول وأديناور، وكان من أهم عوامل نجاح الوحدة الأوربية.

ومع تحفظي على بعض التعبيرات، بدون أن يُلغي هذا تفهمي لاستعمال الكاتب لها، أستعيد ما قاله من أن الاعتراف الأمريكي الملغوم بمغربية الصحراء وبالحكم الذاتي كصيغة لحل المشكل القائم في المنطقة قد يشكل كارثة حقيقية على المغرب، وعلى المنطقة، فالحكم الذاتي، كما قد تسعى لترجمته واشنطن إلى حيز الواقع في الصحراء “المغربية”، لن يكون هو نفس الحكم الذاتي الذي تريده وتخطط له الرباط، الحكم الذاتي بالنسبة لساسة واشنطن قد يصبح، مع تغيُّر الإدارات الأمريكية، مختلفا كليا عما لدى المغاربة في أذهانهم.

وأتفق مع الأستاذ تماما وهو يقول : حين يخرج الشعب المغربي في مظاهراته المليونية معربا عن مساندته للمقاومة في فلسطين، ولبنان، والعراق، وحين يرفض الحرب الكونية المشنونة على سورية من جهات الدنيا الأربع، ويتعاطف مع الشعب اليمني في المحنة القاسية التي يتعرض لها على أيدي التحالف السعودي الأمريكي، فإن المغاربة، في الواقع، يسعون بذلك للمساهمة في إفشال المشاريع الصهيوأمريكية في المشرق العربي، لإدراكهم، بحدسهم السياسي التلقائي، أن نجاح تلك المشاريع الخبيثة هناك، سيعني انتقالها إلى منطقة المغرب العربي، وسيكون المغرب الأقصى واحدا من

المتضررين من السياسة الامبريالية التي تهدف إلى بلقنة المنطقة وتفتيتها للسيطرة والإطباق عليها.”

وأتفق تماما مع المثقف الوطني المغربي من أن الأمر ليس “مجرد تعاطف شعبي وجداني مع أشقاء عرب يتعرضون للقصف والقتل والتدمير والغزو…الشعور العام لدى المغاربة في مظاهراتهم الرافضة لما يقع في المشرق العربي مبعثه إحساسهم بأن من يبدأ بالمشارقة، سينتقل لفعل الشيء ذاته في المغاربة (..) هذه قناعة، كانت ولا تزال، مترسخة في نفوس أبناء المغرب العربي كافة، وهي واحدة من البديهيات التي تعززها المعطيات التاريخية..”.

ويا مثقفي المغرب العربي …اتحدوا، ولا يصيبنكم ما أصاب المشرق العربي.

رأي اليوم

أحد, 03/01/2021 - 09:00