ملاحظات عابرة!

خالد الفاظل

هذه بعض الأشياء التي يمكن ملاحظتها بجلاء عند فقدان شخص ما مرورا بالمسار الفاصل بين المستشفى وآخر محطة وهي تقديم التعازي...
برودة مشاعر الأطباء. فعلا ربما هم متعودون على مشاهدة المرضى ينتقلون للعالم الآخر وربما أصبح الأمر عندهم روتينا عاديا مثل غروب الشمس ولا يثير الانتباه. لكن دقيقة واحدة فقط، يقفون فيها وقت خروج جثمان الميت من غرفة الحجز مع الدعاء له؛ أو يكلفون أحدهم بتوديع الفقيد نيابة عنهم إذا كانوا منشغلين في التطبيب، خطوة ستترك أثرا إيجابيا للغاية في نفوس من يرافقون الفقيد وهم يكابدون لحظات مزدحمة بالحزن ويحتاجون لوضع أكاليل من المواساة على قلوبهم..
هؤلاء الذين ما أن يعلموا بخبر نعي أحد حتى يسارعون لنشره مبكرا في مواقع التواصل الاجتماعي. أظن أنهم يجعلون النبأ مباغتا وصادما وربما يتسببون بأذى نفسي مضاعف يضر أكثر أصحاب الأمراض المزمنة. فأحيانا؛ يستيقظ أحدهم من النوم وما أن يتصفح هاتفه حتى يتفاجأ بالخبر الصادم تلقاء عينيه مباشرة، وكان سيعلم به بالتدرج عندما يتصل مستفسرا عن حال المريض أو يقال له الخبر بطريقة بطيئة لا تباغته نفسيا ولا تصدمه. أظن أن خبر نعي الراحلين في مواقع التواصل الاجتماعي؛ يستحسن تأخيره لثلاث ساعات على الأقل، وهي مدة كافية ليصل صداه بحكمة وهدوء لكل الدوائر المقربة من الفقيد؛ الأهل والأصدقاء..
أصحاب السيارات الذين يتشاركون الطريق مع السيارة التي تحمل الجثمان، تلاحظ بأنهم لا يتخلون جميعا عن استباق الطريق معها. كما أن نظرات الناس المصطفين عند الأرصفة جليدية مع استثناءات قليلة. وحده صاحب عربة وحمار قال لنا مواسيا دار النعيم، وسيدة كانت تنتظر سيارة أجرة كانت تحرك لسانها بالدعاء تفطنت لها لما رأيت سبابتها تتحرك بشكل لولبي ناحية السماء، وفتاة يافعة التفتت نحو الموكب متأملة الموقف بنظرات بطيئة بدت عميقة التضامن مع المشهد. طبعا الجسد الملفوف في القماش ليس جثمانا وحسب، إنه روح شكلت حضورا عميقا جدا في محيطها ومن الأهمية بمكان أن نظهر -كغرباء- مشاعر التعاطف والدعاء لها، والأمر لن يتطلب منا سوى نصف دقيقة ونحن نتمشى على الأرصفة أو نتبضع بالمحلات أو  نعبر ازدحام الأسواق سيرا أو جلوسا في مقاعد السيارات المحاذية للموكب. فتلك الوجهة الحتمية تنتظرنا جميعا، وكل واحد منا مهما طال مكوثه مع الأحباب؛ فسيأخذ ذات يوم نصيبه من الفقد ويلتحف قلبه آلام الغياب.
عند التجهز للصلاة على من رحل يحدث تأخير مبالغ فيه في انتظار وافدين جدد بغية تكثير سواد المصلين. والعبرة أظنها بالكيف وليست بالكم، وأعتقد أن الفضل شيء لا يعلمه سوى الله، ربما يكون المتواضع المظهر والأقل شهرة دعاؤه للميت أسرع في الوصول. وإكرام الميت بالإسراع بدفنه، وأفضل ما سيلحقه هو الدعاء له عن ظهر غيب والتصدق عنه ولو بشق تمرة. وكثرة هرج ومرج المشيعين تثير ربما زخما في الدنيا يفاخر به أهل الميت، لكنه ربما يربك ثواب الصبر والتسليم الذي يصل صداه للفقيد فيما وراء البرزخ..
عند أكناف القبر يتكاثر المتفقهون! كل يدلي برأيه في الطريقة الصحيحة للدفن، مما يولد لغطا لا يناسب اللحظة. الهدف من كل هذا؛ هو إكرام الميت بدفن جسده حتى لا يتأذى بفعل تلك المؤثرات الخارجية. ففي نهاية المطاف؛ الأجساد ذائبة بأحشاء الأرض والمهم هو مسار الروح ومصير صاحبها هناك. فتحنيط الفراعنة وبقاء أجسادهم متصلبة القسمات لن يفيدهم، خاصة فرعون موسى الذي لم تأكله التراب. شخصيا لا مشكلة عندي بالتبرع بأعضاء جسدي بعد وفاتي لمرضى ربما تنقذ صحتهم من التدهور، ولا أقول مطلقا تنقذهم من مخالب الموت، لأن الأجل مكتوب. كما أن النار المتوقدة التي يضمرها الهندوس في أجساد موتاهم وتحولهم إلى رماد ينثرونه في نهر الغانج "المقدس" لن تجعلهم ينسون من شمولية البعث عندما يحين موعد النفخة الثانية، حتى ولو تخيلنا بأن رماد أسلافهم ذاب منذ قرون في مياه النهر وتبخر في الهواء. قال الله تعالى في سورة الكهف: (( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ))..
الطريقة العشوائية في تعمير المدن بالحياة الدنيا التي دأب عليها الشعب الموريتاني منذ الاستقلال؛ هي نفسها الطريقة التي يواجهون بها العالم الآخر للأسف الشديد. فمن خلال عدم الانتظام في رص القبور وتكدس شواهدها فوق بعضها البعض دون ترك مسافات للعابرين،  ستأخذ انطباعا بأن الموريتانين  ربما يبعثون يوم القيامة في زحمة مرورية خانقة مثل زحمة ملتقى "كلينك"  في أوقات الذروة. صراحة؛ من شاهد معاناة الشعب الموريتاني في المستشفيات البالغة التدهور في مجال الرعاية الصحية، وشاهد ما تعانيه القبور من إهمال،  سيدرك بكل جلاء فشل الحكومات المتعاقبة والمتداخلة في إكرام المواطن االموريتاني الإنسان، الإنسان الذي أكرمه الله وفضله على كثير من مخلوقاته.
تحول مجالس العزاء إلى ولائم يبالغ أصحابها في البذخ كما يبالغ المعزون في المكوث واجترار الأحاديث. مما يتسبب في إهدار مخزون كبير من الأطعمة والأشربة كان من المستحسن ذهاب ريعه إلى الصدقات. كما أن القهقهة الصاخبة والنقاش المتصاعد في أمور جانبية ليس وقورا في الساعات الأولى من العزاء على الأقل. أتذكر بكل جلاء اثنين من المعزين كانا يتساومان في إبرام صفقة بيع سيارة مع تذكار بعض مناقبها الميكانكية!
في نهاية المطاف؛ سواء عاش الإنسان عشرين سنة أو أربعين سنة أو تسعين سنة وما فوق، فكل هذا سيكون ضئيلا للغاية بالمقارنة مع الزمن اللا متناهي الذي ينتظرنا. علينا جميعا بأن نجد في فعل الخير قبل فوات الأوان. وننهمك في أخذ أسباب إعمار  الحياة بعيدا عن الضغائن والجشع والزهد السلبي الذي يجعل الإنسان هشا وأكثر تقبلا للظلم والاستغلال، وأقل جهدا في عملية التدافع نحو ما يسعد الناس دنيويا وأخرويا.
الموت لا يؤرق الراحلين بقدر ما يؤرق الأحياء لما يترتب عليه من فراغ عميق يتركه الراحلون في قلوب الأحياء. والنصيحة التي يمكن تقديمها هنا؛ أن الحب ليس من الأشياء التي ينميها الإدخار ويفيدها التأجيل. فلا تتراخوا مطلقا في إظهار المودة والاهتمام للمقربين منكم. فعند رحيلهم؛ لن تندموا على شيء أكثر من الندم على عدم الاستغلال الأمثل لأوقات "التجابير" في الدنيا للتعبير أكثر عن الاهتمام والمودة.. 
شكرا لكل من قدموا الموساة هنا في تطبيق الفيسبوك وكانوا على النحو التالي:
المعزون عن طريق الإشارة في منشور: 58
نسبتهم من قائمة المتابعين: 0.13%
المعزون عن طريق المراسلة: 101
نسبتهم من قائمة المتابعين: 0.23%
عدد المتفاعلين مع منشور النعي بالتعاليق حوالي: 3778
نسبتهم من قائمة المتابعين: 8.79 وأعتذر لهم عن عدم الرد عليها نظرا لتراكمها علي عندما كنت منشغلا في أيام العزاء. أنا ممتن لكم كثيرا...
طبعا هذه المعطيات لا تعبر عن شيء محدد، بل مجرد هواية قديمة عندي في توثيف وأرشفة كل شيء. حيث قمت بكتابة جميع الأسماء وحفظها. 
رحم الله الفقيدة وأبدلها شبابها بالجنة وأهلا خيرا من أهلها وجعلها مع الصديقين والشهداء والأنبياء. وإنا لله وإنا إليه راجعون..
 

خميس, 08/04/2021 - 10:56