التَّفَتِّي والتَّكَنْتِي

أدي آدب

 (استجابة لمن طلب مني نشر هذا المقتبس)
سبق أن قلت- في الكتاب الثاني من هذه السلسلة: "إنَّ وصْفَ "التكَنْتِي"، الذي وُسِمَ به هؤلاءِ القوْم، قد انتقل- عبْر التاريخ- من النسبة العرقية "الكنتية" التي أخذها سيد محمد الكنتي الجد الأعلى للقبيلة من أمه، إلى النسبة الأخلاقية البحتة، حيث كان- في أصْل إطْلاقِه- يَخْتَزل مَنْظُومَةً من القِيم الفضيلة النبيلة.. تُرَادِفُ" اسْتَفْتِي" باللهْجَة الحسَّانية، أو "التَّفَتِّي" الذي هو "الفُتُوَّة" بالفُصْحَى ، التي تشتمل: العلم، والحلم، والشجاعة، والعزة، والأريحية، واللوذعية الأدبية في الشعر والنثر، لكنَّ "الكرَمَ/السخاءَ" كانَ أبْرزَ تلك المَنْظُومَةِ الأخلاقية، وألْصَقَها برُوح "التكَنْتِي" و"التَّفَتِّي" مَفْهومًا ومُصْطَلَحًا، وهُوُيةً وذِهْنِيةً، والعجيب أن معاجم اللغة العربية غلَّبَت السخاء والكرم في منظومة قيم "التفَتِّي"، كما هو حالها في "التَّكَنْتِي"؛ ففي الصحاح: والفتى: "السخي الكريمُ. يقال: هو فَتًى بيِّن الفتوّةِ. وقد تَفَتَّى وتَفاتى"، بل إن صاحب تاج العروس تجاوز إلى المعنى الأخلاقي العُرْفي "للفُتُوَّةُ"؛ فهي "َفِي عُرْفِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ أَنْ يُؤْثرَ الخَلْقَ على نفْسِه بالدُّنْيا والآخِرَةِ.
وصاحِبُ الفُتُوَّة، يقالُ لَهُ: الفَتَى، وَمِنْه: "لَا فَتَى إلاّ عليّ"؛ وقولُ الشاعِر:
فإنّ فَتى الفتيان من رَاحَ واغْتَذَى***لضرّ عدوَ أَو لنَفْعِ صَدِيقِ
وعُبِّرَ عَنْهَا فِي الشَّريعةِ بمكارِمِ الأخْلاقِ، وَلم يَجِئْ لَفْظُ الفُتُوَّة فِي الكِتابِ والسُّنَّةِ، وإنّما جاءَ فِي كَلامِ السَّلَفِ، وأَقْدَمُ مَنْ تكلَّمَ فِيهَا جَعْفَرُ الصّادِق، ثمَّ الفضيلُ، ثمَّ الإمامُ أَحمدُ، وسهل، والجُنَيدُ، وَلَهُم فِي التَّعْبيرِ عَنْهَا أَلْفاظٌ مُخْتَلفَةٌ والمآلُ واحِدٌ".
وبعد هذا المقتبس التأصيلي "للفتوة" لغة وعْرْفا، نتلمس الخيط الواصل بين التكنتي والتفتي، الذين جعلتُهما وجهين لعملة أخلاقية واحدة، في تمهيدي لأطروحة "المقاومة الأخلاقية"، التي أقاربها في "أدبيات أهل آدب"، وهنا نجد أن الجد الثاني لقبيلة كنتة الذي انبثقت منه فروعها، ربط بين هذين المفهومين، عندما سأله أبناؤه ذات مرة عن نسبهم المرفوع إلى فاتح إفريقية العظيم: عقبة بن نافع الفهْري القرشي، فاسْتَمْهَلَهمْ حتى الصباح، وعندما راجعوه في الموعد: فاجأهم: بقصعة ولوح: وقال لهم: هذه أمُّكم، وهذا أبوكم.... موجها إياهم إلى النَّسَب القِيمِيِّ الخُلقيِّ، الذي يرجع للشَّخْص الفضلُ في كسْبه، صارفا نظرَهم عن النسَّبِ الطِينِيِّ، الذي يشتركُه بنو آدم جميعا، وليس من كسْب وارثِه من أبويه، ويصعب تحقيقه والتحقق منه . 
وهنا يجدر بالتنبيه أن تراتبيةَ القيم- في هرم منظومة الفتوة- مُتَغَيِّرَةٌ من عصر، إلى  عصر، ومن مجتمع إلى آخر، فقد يَتَرَبَّعُ على قِمَّتَها الكرَمُ هنا، ويترَبَّعُ على قِمَّتِها العِلْمُ هناك، وتَتَرَبَّعُ على قِمَّتِها الشجاعةُ هنالك، وهكذا دواليك.
 ونحن نعتبر أن هيْمَنةَ قِيمة الكرم، في "الفُتُوَّةِ الكُنْتِيَّة"، لا تحط كثيرا من موْقِعَي المعرفة والشجاعة/ القلم، والمدفع،/ الكتاب، والركاب... فهاتان القِيمَتان تعتبران-أيضا- وجهيْن لعُمْلة واحدة، تسمى:"التكنتي"، حيث يقتضي جوهر الانتماء لقبيلة "كنته"- من بين منظومة قيِّمِها- أن يتمَوْقع المنتسب لها في "المنزلة بين المنزلتيْن"، بين صفة الزوايا/ الطلبة ذوي الكتاب، المتسْضْعَفِين، الخانعينَ، وبيْن " العرب"/ذوي الركاب، الصائلين المعتدين، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، منطقة وسطى؛ لا تقبل الضيْمَ والمَهانَةَ، ولا تُشَرِّعُ العدوان، والطغيان 
انظر كتاب: المقاومة الأخلاقية في أدبيات أسرة أهل آدب:صص:17-18
وكتاب: سيدي ولد آدب رمز الفتى الكنتي، فارس المدفع والقلم:ص13-15
 

أربعاء, 04/08/2021 - 08:48