خبران في الأيام الأخيرة أعادا طرح سؤال مستقبل العشرية بقوة؛ أولهما إعلان النيابة العامة انتهاء وضع الرقابة القضائية عن كل المشمولين في الملف باستثناء شخص واحد، هو الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، أما الخبر الثاني فهو اختيار با عصمان لخلافة الوزيرة السابقة نبغوها منت حابة في رئاسة المجلس الأعلى للتهذيب؛ بعد أيام قليلة من استقالتها منه.
ومع أنه قد لا توجد علاقة منطقية بين الحدثين؛ لكن تقاربهما في الزمن؛ وتداخلهما مع عوامل أخرى في السياق فرضا طرح السؤال وجعلاه يكبر وتتولد عنه أسئلة أخرى؛ من قبيل علاقة الأمر بما أشيع قبل عن صفقة تمت خلال أزمة الجلطة الدماغية، وكذا علاقته بأحداث سياسية واستحقاقات انتخابية ربما تكون استدعت في تقدير صناع القرار التفكير بطريقة مختلفة في إدارة الملف الذي شغل الرأي العام خلال النصف الأول من مأمورية الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.
تداخل الأبعاد
لانقاش في أن ملف العشرية أخذ أبعادا تشريعية وقانونية وقضائية، ولا خلاف في أن مثله من الملفات يأخذ وقتا، لكن كل ذلك لا يمنع من التذكير بأن "جذور الملف" كانت سياسية محضة مع ما عرف حينها بأزمة المرجعية حين أراد الرئيس السابق الاستمرار في قيادة الجناح السياسي للسلطة (حزب الاتحاد من أجل الجمهورية) وهو ما اعتبره الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني تشويشا عليه وهو لما يكمل بعد نصف سنته الأولى في الحكم.
يمكن القول إن الملف الذي نشأ سياسيا؛ تحول في ظروف تختلف قراءة الطرفين لها إلى ملف تشريعي، ومن بعد قضائي (تقول السلطة أن لاعلاقة بين الأمرين ويجيب أنصار الرئيس السابق أن الملف كله ليس سوى تصفية حسابات).
وهكذا تداخلت في الملف أبعاد عدة، ترك كل منها بصمات وأصبح لكل من روايات الأطراف ما ومن يصدقها من الفاعلين والمنفعلين.
وقد بلغت حالة التداخل وما يترتب عليها من سخونة في الملف ذروتها خلال الأشهر الأخيرة من العام المنصرم؛ وكان إيداع الرئيس السابق السجن لحظة ذروة لم يتوقع كثيرون الوصول لها بتلك السرعة، ومثلت النهاية "الدرامية" لتلك اللحظة (إصابة المتهم الرئيس في الملف بجلطة اقتضت تدخلات جراحية وعمليات قسطرة) بداية انكسار مسار المواجهة؛ ووفرت من حيث لم يتوقع عديدون فرصة لتفاهمات ولو ضمنية على مسار جديد؛ كان واضحا خلال الأسابيع الاخيرة أن ضبط الإيقاع هو عنوانه الرئيس.
أي مستقبل..؟
الظاهر أن مرحلة "الصدام المفتوح" التي ميزت نهاية العام الماضي هيأت الأرضية لمرحلة جديدة في الملف تلتقي فيها مصالح طرفيه:
فبالنسبة لنظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني :
1- يمثل البحث عن التهدئة أولوية قصوى مع مختلف الفاعلين بمن فيهم الرئيس السابق؛ وأي فرصة تسنح ليدخل ضمن حالة "الهدوء العام" تمثل تعزيزا لمكتسب جوهري.
2- يسمح دخول الملف في أجواء البرودة بعد أشهر من التسخين باستعادة خدمات من يعتبر النظام أنهم كفاءات وطنية وحزبية يحتاجها بين يدي استحقاقات حزبية وانتخابية؛ بدت مؤشرات متعددة على أن الغريم المعارض سيستعيد فيها خطابه التقليدي؛ بمن فيه الأطراف التي كانت توصف بالمعتدلة في النصف الأول من المأمورية، وهو ما يعزز حاجة القطب الموالي للاعبيه المحترفين في المنازلة السياسية والانتخابية.
وبالنسبة للرئيس السابق فالظاهر أن فترة السجن أثمرت مراجعة عميقة لمسار "المواجهة مع الدولة":
1- حيث لم تنجح محاولات التلاقي مع الطيف المعارض بمن فيه الأكثر "راديكالية" في معارضة النظام الحالي؛ ما يعني أن أفق عمل سياسي تشاركي ليست بتلك الرحابة التي تمناها الرجل الذي أمضى عشر سنوات في الحكم غلب عليها التوتر مع المعارضين، ولكنه توقع أن تغير المواقع سيثمر بالضرورة تغيرا في المواقف؛ وهو ما لم تجرى رياح العلاقات السياسية بما يسمح لسفنه بالإبحار.
2- وحتى بالنسبة لخطط ورهانات تحريك الشارع من نقاط توتره؛ ومن خلال بقايا خلايا العشرية؛ اتضح أنها خطط ورهانات أغفلت حقيقة أن نصيب الأسد من أدوات تنفيذها كانت بيد السلطة الحاكمة، وليست بيد تلك "الآفلة".
هكذا إذا تكون مقاربة الرئيس السابق المصر على الاستمرار في العمل السياسي قد تغيرت ولم يعد الشارع والتصعيد ميدانها، ما يعني أن مجرد وجوده خارج السجن ولو في رقابة قضائية حتى النصف الثاني من العام الجاري على الأقل يمثل وضعا مريحا بالمقارنة مع وضع نهاية العام الماضي.
.. وبالتالي
الراجح وفق القراءة السابقة لتطورات الملف وتداخلاته وآفاق مصالح طرفيه؛ أننا نتجه لعملية تنزيل هادئة له من رفوف التناول الساخن؛ إلى وضع انتظار رتيب يوصل في النهاية إما لتطبيع كامل، أو لترحيل لما قبل نهاية المأمورية بل ربما حتى لما بعدها.