إذا صادف أن شاهدت شبحا أسود يقرأ الأخبار على الشاشة الصغيرة فاعلم فورا أنك أمام إحدى المحطات الأفغانية وأن من تحت تلك العباءة السوداء الفضفاضة مذيعة حظرت حركة “طالبان” ظهورها ولو بالحجاب أو حتى بالنقاب!!
هذا ما تم فرضه بالقوة منذ 22 مايو/ أيار الماضي بعد يوم واحد أرادت فيه المذيعات في القنوات الأفغانية تحدي القرار بعدم تغطية وجوههن لكنهن سرعان ما خضعن له مكرهات، رغم تضامن زملائهن معهن حين قرروا في مبادرة رمزية عميقة الظهور على الهواء وهم يلبسون قناعا يغطي وجوههم.
حين استلمت حركة “طالبان” الحكم في أفغانستان قبل عام بعد إجبار القوات الأمريكية والأجنبية على انسحاب سريع ومهين لم تطلب من المذيعات سوى حجاب يغطي شعرهن لكنها الآن تفرض عليهن ارتداء “البرقع” الذي يغطي كامل الوجه كما كانت تفرضه على كل نساء البلد طوال فترة حكمها الأول من 1996 إلى 2001.
هذا التراجع ما هو إلا أحد النماذج لتراجع الحركة عن عهود أوحت بها حين دخلت العاصمة كابل في 15 أغسطس / آب العام الماضي من أنها تغيّرت عما عُرف عنها طوال فترة حكمها الأول وأنها ستفاجئ الجميع بنسخة “منقّحة ومعدّلة” لكن الأمر لم يصمد طويلا فكانت البداية مع حرمان البنات من ارتداء المدارس ثم امتد إلى مجالات متعددة أخرى.
بيئة طاردة بالكامل للعمل الصحافي في البلاد ولاسيما للنساء ففي دراسة لمنظمة “مراسلون بلا حدود” المعنية بحرية الصحافة، ومقرها باريس، أغلقت قرابة 40% من المؤسسات الإعلامية أبوابها وهجر المهنة قرابة 60% من الصحافيين وخاصة النساء. وتفصّل الدراسة أكثر فتقول إن أفغانستان كانت تضم في 15 أغسطس/ آب 2021 ما عدده 547 مؤسسة إعلامية إختفى منها الآن بعد عام واحد 219، ومن بين 11857 صحافيا لم يبق اليوم سوى 4759. كانت النسوة أكبر الضحايا حيث خسر أكثر من 76% منهن عملهن، فمن بين 2756 صحافية ومتعاونة في المجال الإعلامي لم يتبق إلا 656 زهاء 85% منهن يعملن في العاصمة.
خلال العام الأول من حكم “طالبان” أعتدي بالعنف على ما لا يقل عن 30 صحافيا من قبل الأجهزة الأمنية وأوقف ما لا يقل عن 80 صحافيا، كما قتل البعض الآخر تتفاوت الأرقام في تقديرهم بدقة
وفي تقرير أصدرته “لجنة حماية الصحافيين” بمناسبة مرور عام على حكم حركة “طالبان” لأفغانستان أشارت اللجنة، ومقرها نيويورك، إلى أن العام المنقضي شهد تراجعا مهولا في عدد الصحف والإذاعات ومختلف وسائل الإعلام الأفغانية فيما يعاني كثير منها للبقاء على قيد الحياة في مناخ من الرقابة يزداد شدة مع الأيام ويستهدف خاصة الصحافيين المستقلين ووسط ظروف اقتصادية شديدة القسوة.
الباقون في البلد والمتشبثون بالمهنة يعانون حاليا الأمرين في معركة الصمود خاصة منذ أن أصدر زعيم “طالبان” الملا هبة الله آخوند زاده في 22 يوليو/ تموز الماضي مرسوما اعتبر فيه أن “تشويه ونقد مسؤولي الحكومة دون دليل” وكذلك “نشر الإشاعات والأخبار الزائفة” محظور دينيا وأن من يفعل ذلك إنما يلتقي من حيث لا يدري مع “الأعداء” وبالتالي “ستجري معاقبته”. أشاع ذلك طبعا جوا من الخوف من شأنه أن يقلّص من قدرة الصحافة بمختلف تلويناتها على نقد العمل الحكومي ولعب دور الرقيب اليقظ المعبّر عن توجهات معيّنة داخل المجتمع مما يساهم حتما في خلق هالة معيّنة تجعل الحكومة فوق كل نقد أو تصويب، خاصة وهي تجمع بين سلطتين سياسية ودينية.
هذا المرسوم لزعيم الحركة يُضاف إلى خطوات سابقة ضيّقت على الصحافة والصحافيين ففي سبتمبر/ أيلول 2021 أصدر المركز الحكومي المشرف على الإعلام ما سماه “القواعد الإحدى عشرة للصحافة” والتي تعيد ما تكرّره دائما الأنظمة الشمولية من تحذير من أن القضايا التي يمكن أن يكون لها تأثير سلبي على الروح المعنوية الناس يجب أن تُتناول بأكبر قدر من الحذر . وفي مارس/آذار الماضي مُنع على كل الإعلام الخاص إعادة بث نشرات وسائل إعلام دولية باللغة المحلية مثل نشرات “هيئة الإذاعة البريطانية” أو “صوت أمريكا” أو “دوتشي فاليه” الألمانية.
ويزداد الوضع سوءا حين نعلم أنه خلال العام الأول من حكم “طالبان” أعتدي بالعنف على ما لا يقل عن 30 صحافيا من قبل الأجهزة الأمنية وأوقف ما لا يقل عن 80 صحافيا، كما قتل البعض الآخر تتفاوت الأرقام في تقديرهم بدقة، فيما يقبع حاليا ثلاثة صحافيين وراء القضبان بتهمة المس من أمن الدولة لم يمثل منهم أمام المحكمة سوى واحد فقط حكم عليه في مايو/ أيار الماضي بالسجن لمدة عام، وذلك وفق ما أوردته “مراسلون بلا حدود”.
مثل هذه الأجواء ليست بعيدة طبعا عن كثير من دولنا العربية والإسلامية وأفغانستان ليست بالتأكيد نشازا في هذا المشهد لكن الفرق الوحيد هو أن الأفغان جرّبوا طوال عشرين عاما حلاوة حرية الصحافة والتعبير، حتى في جو أمني مضطرب مع وجود قوات أجنبية على أرضهم، ومن الصعب جدا عليهم الآن تحمّل سياسة تكميم الأفواه، حتى مع عودة نوع من الأمن والاستقرار، مما قد يدفعهم بمرارة إلى الترحّم على تلك السنوات.. فالحرية لا يعوّضها شيء.
نقلا عن القدس العربي