عشية مغادرته تونس في أعقاب نهاية مهمته كشف دونالد بلوم السفير الأمريكي في بلادنا في حديث خص به “الصباح” عن موقف بلاده من 25 جويلية وحل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وأكد (والحديث مسجل) أن واشنطن لم تطلب العودة إلى ما قبل 25 جويلية.. وقد اعتذر السفير الأمريكي في خاتمة الحديث عن الإدلاء بأي موقف بشأن ما يحدث في باكستان وجهته الجديدة بعد تونس معتبرا أن البروتوكولات تفرض عليه عدم الإدلاء بأي موقف في هذا الصدد قبل تولي منصبه رسميا في إسلام أباد.. مر على هذا الكلام نحو خمسة أشهر سجل خلالها أكثر من موقف للسفير الأمريكي المعين لاحقا في تونس جوي هود الذي لم يحدد موعد وصوله والذي اتصفت مواقفه التي سبقته بالعداء وانعدام الحياد في تقييم تطورات المشهد السياسي في بلادنا ..
ندرك جيدا أن توجهات الخارجية الأمريكية ليست مسألة اعتباطية ولا تخضع للأهواء والنزوات ولكن تحددها لعبة المصالح وما تشير به دوائر صنع القرار واللوبيات المؤثرة التي لا تنظر بعين الرضا لرفض أغلبية من التونسيين لسلطة الإخوان بعد أن خبروا مساوئها على البلاد والعباد وهي السلطة التي لم تدخر جهدا في دفع التونسيين لرفضها والرغبة في إسقاطها من المشهد، وهي لعبة لا خلاف أن لمراكز الدراسات التي تخصص ميزانية كبيرة لاستشراف المستقبل وقراءة التحولات الدولية الإستراتيجية، تماما كما ندرك أن الخارجية الأمريكية ليست منظمة خيرية في خدمة التجارب الديموقراطية الناشئة ولا شك أن الأمثلة القائمة متعددة وأسوأها على الإطلاق ما حدث في العراق الذي تحول من قوة إقليمية الى حلبة صراعات عرقية وقبل ذلك أفغانستان التي وقعت مجددا في قبضة طالبان ومنها سوريا وليبيا والصومال وحتى لا ننسى أيضا السودان أو بالأحرى السودان الشمالي بعد تقسيم هذا البلد الى جزء شمالي مسلم وآخر جنوبي مسيحي في انتظار إعلان جمهورية دارفور وهنا بيت القصيد.. الحديث عن السودان يفرض نفسه بعد إعلان واشنطن عن وصول سفيرها جون غودفرى أول أمس الى العاصمة الخرطوم وهو حدث يكتسي بالتأكيد أهمية كبرى ليس لأنه يأتي بعد قطيعة بين أمريكا والسودان استمرت ربع قرن من الزمن فحسب بعد إدراج هذا البلد على قائمة الدول الداعمة للإرهاب، ولكن وهنا مربط الفرس لان في السودان مشهد أبعد ما يكون عن أي مشروع ديموقراطي وهو مشهد لا يختلف بشأنه اثنان بعد الانقلاب العسكري الذي عرفه السودان وإسقاط السلطة المدنية المؤقتة بزعامة الحمدوك وتولي سلطة عسكرية بقيادة عبد الفتاح البرهان الذي يصر على قمع التحركات الشعبية وتجاهل كل المطالب والدعوات الدولية لإنهاء العنف المستمر في الشارع السوداني ..
السفير الأمريكي الجديد في السودان أعلن منذ اللحظات الأولى لوصوله استعداده للعمل على تعزيز العلاقات بين الشعبين الأمريكي والسوداني ودعم تطلعاتهما إلى الحرية والسلام والعدالة والانتقال الديمقراطي”… تصريح ليس من الواضح كيف سيحققه السفير الأمريكي في السودان حيث يهيمن صوت الرصاص على كل الأصوات.. ولكن الواضح في المقابل أن هناك ما يدفع واشنطن الى هذا الخيار لتقرر التراجع عن تخفيض تمثيلها الديبلوماسي الذي اعتمدته منذ 1997، بعد اتهام الخرطوم بقيادة البشير بالإرهاب قبل أن يتجه الرئيس السابق ترامب الى قلب المعادلة.. ولاشك أن هناك أسبابا خفية وأخرى معلنة وراء هذا التحول الاستراتيجي العميق ومن ذلك قبول السودان ورضوخه لتقديم تعويضات خيالية قدرت بـ335 مليون دولار لأسر الضحايا الأمريكيين في العمليات الإرهابية التي استهدفت السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا عام 1998 وتفجير المدمرة يو.إس.إس كول عام 2000 ومقتل الدبلوماسي جون جرانفيل عام 2008.. وأما السبب الثاني والذي لا يخفي على مراقب وهو السبب الذي مهد لتقديم التعويضات ورفع السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب وهو قبول السودان بالتطبيع مع إسرائيل والتخلي عن لاءات الخرطوم الثلاث لفتح فصل جديد مع تل أبيب وإعلان قائمة من الاتفاقيات العسكرية والأمنية والاقتصادية التي كان السودان الجنوب سباقا إليها بدعوى امتلاك إسرائيل لكل القدرات التكنولوجية للمساعدة في مجال الفلاحة والتصنيع والبحث العلمي وغيره …
النقطة الثالثة فتتعلق حتما بالصراع الروسي الأمريكي على خلفية الحرب الروسية في أوكرانيا والتنافس لفرض موطئ قدم شرق إفريقيا ..
ولم يكن اختيار غودفري لهذه المهمة أيضا مجرد صدفة لإعادة العلاقات بين واشنطن والخرطوم بعد قطيعة استمرت ربع قرن وغودفري يتكلم العربية بطلاقة، وشغل منصب القائم بأعمال منسق مكافحة الإرهاب والمبعوث الخاص بالإنابة للتحالف العالمي لمكافحة تنظيم داعش في مكتب مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأميركية.. وسبق أن عمل في الرياض ودمشق.. يبقى الأكيد أن مهمة السفير الأمريكي الجديد قد لا تكون محسومة طالما ان الشارع السوداني لا يزال ينبض ويعلن رفضه لنظام الحكم العسكري وحقه في طي صفحة الاستبداد العسكري بعد طي صفحة الاستبداد الديني العقائدي ..
نقلا عن رأي اليوم