مالك، بائع "الرصيد"،

محمد فال بلال

مع بدء العد التنازلي لنهاية مهمتي في "سيني" والتحرر منها، يطيب لي أن أسجل كلمة موجزة عن شخصيات رائعة قابلتها مدّة انتدابي هنا، وبقت محفورة في ذاكرتي.
1- الشاب مالك ولد أحمد لعبَيد
أربع سنوات وأنا أمشي و أجيء بين المنزل والمكتب. أربع سنوات أسلك خلالها نفس الطريق: حمام النيلة - بيگ مركتْ  - فندق أميرة - دوار الحوتات - مقر "سيني". في الطريق إلى المكتب، تقفُ عن يميني عمارة زجاجية بيضاء ليلها كنهارها طالما جذبت انتباهي وتمنيتُ أن تكون مقرا للجنة لما توفره من شفافية و وضوح. وعلى يساري، يتجمع مئات العاطلين على طول الطريق. يحملون أدوات سباكة و كهرباء و طلاء، إلى غير ذلك من المهن الصغيرة والأشغال اليدوية. مع طول الوقت، فهمت أن 90% منهم أجانب ، وأنهم هنا ليس طلبا للعمل، وإنما طلبا للهجرة إلى أوروبا.
وقبالة "بيگ مركت" توجد مخبزة … أتوقف عندها غالبا لمدة دقائق، أشتري  و 2  و أمضي باتجاه ملتقى طرق "الحوتات". أدور يمينا وأمرُّ قرب محطة نشطة من محطات "تاكسي تُو دَرْوَا". منها و إليها الكل يجري في سباق نحو هدف مجهول، باستثناء شخص واحد لم أره إلاّ وهو جالس لا يتحرك مع الزمن. سألت عن إسمه في يومي الثاني أو الثالث، قالوا هذا مالك ولد أحمد لعبَيد، شاب من عظماء تجمع "بورات" التابعة لمقاطعة "مال". 
شاب في الثلاثينات من عمره، يجلس وحيدا على مقعد رث خلف طاولة صغيرة يتدلّى من فوقها عدد من بطاقات "موريتل - ماتل - شنگيتل". يُطل مالك بهدوء على حركة الشارع، وهو لا يتحرك. لم يغادر المكان منذ 2009، تاريخ ميلاد "سيني 2" إلى يوم الناس هذا. تأتي "السينيات" وتذهب الواحدة تلوى الأخرى، وهو ثابت ثبات الجبال. واكب 3 "لجان" و 3 انتخابات رئاسية. رأى كل شيء، وسمع عن كل شيء. شاهد أفراح الفائزين وأتراح الخاسرين، وهو جالس وراء بضاعته المزجاة يتحدى قساوة الحياة والمناخ مُتشبِّثا بحقه في العيش الكريم. لم يستسلم لصعوبة الظروف. لا مال لديه ولا نقود، ولكن شجاعة وإرادة وعزيمة. لم يتخلّ عن رجولته وكرامته، ولم يترك الفرصة للصعوبات لتنال من قوته وتصميمه. والشيء الأكثر غرابة في أمر هذا الشاب - وأمره كله غريب - هو دفتر ديونه المستحقة على موظفي اللجنة ولا سيما العمال المَوسِميّين الذين تنتهي علاقتهم باللجنة 15 يوما بعد الاقتراع. إن عددا كبيرا من هؤلاء "تلثموا" على آلاف ومئات "الكرتات"، أخذوها من عنده على سبيل الاقتراض، ثم ذهبوا إلى حال سبيلهم. وتركوه يعاني وحيدا في صمت وتكتم. يرفض الشكوى، ويأبى لنفسه حتى التشكي والتأسي على مصير نقوده.. لم يفكر يوما واحدا في متابعة أي أحد منهم.
تعلمت من هذا الشاب دروسا لا توجد في بطون الكتب ولا في أفواه الرجال. علمني معنى الصبر، والتشبث بالحياة مهما كانت الحواجز والصعوبات التي تعترض الطريق. علمني أن الحياة كفاح وصبر وثبات. علمني كيف أواجه قادم الأيام، وأنا أغادر منصبي في رئاسة اللجنة.
دمتَ قويا وكريما يا مالك 
ودام لك "الرصيد".
وداعا..

أربعاء, 28/09/2022 - 08:57