إيران: حتمية المراجعة والتغيير

محمد كريشان

«لا تخرجوا (في مظاهرات) بعد اليوم، واليوم هو الأخير للفوضى»…
بهذه الكلمات اختار قائد الحرس الثوري الإيراني، حسين سلامي، أن يتوجه إلى المتظاهرين في بلاده الذين لم يكلوا أو يملوا من الخروج إلى الشارع منذ مقتل الشابة مهسا أميني على يد قوات «شرطة الأخلاق» منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي.
دعوة سلامي، التي جاءت في كلمة متلفزة له السبت الماضي، لم تكتف بذلك بل جاءت مقترنة بدعوة الشباب الغاضب إلى «العودة إلى صفوف الشعب الإيراني»، محذرا إياهم من أن يكونوا «لعبة في يد أمريكا».
لم تكن هذه التصريحات الأولى من نوعها من سياسيين أو أمنيين إيرانيين لكنها قد تكون الأكثر قوة التي توجه إلى متظاهرين من الواضح أن تصريحات مماثلة سابقة لم تفت من عزيمتهم ولم تثنهم أبدا عن مواصلة احتجاجاتهم في كامل أنحاء البلاد، بل إنها لم تُخِف العديد منهم من الظهور بوجوه مكشوفة، شبابا وشابات، على مواقع التواصل الاجتماعي لشتم القيادات السياسية والدينية في البلاد، مما يدل على أن الكيل قد فاض بهؤلاء فلم يعودوا يخشون شيئا بما في ذلك الموت الذي حصد إلى حد الآن العشرات من رفاقهم في مظاهراتهم المتعددة التي امتدت إلى الطلبة وما يمثلونه من ثقل.
ليس هناك أسوأ من أن يتوجه أي مسؤول إلى المتظاهرين في بلده بمثل هذه اللغة التي تعتقد أن الاحتجاجات تنطلق بكبسة زر وتتوقف بالطريقة نفسها، فلغة كهذه لن تؤدي في النهاية إلا إلى مزيد من صب الزيت على النار. حتى الطفل الصغير الذي تنهره عن فعل ما، دون أن تكلف نفسك إفهامه والتحاور الهادئ معه، لن يتوقف عن فعل ما نهيته عنه بل الأرجح أنه سيواصله بتحد أكبر، فما بالك أن هؤلاء المتظاهرين ليسوا أطفالا والخلاف معهم أكبر وأعمق بكثير يتعلق بالحريات، التي وإن توفرت في إيران داخل أسوار البيوت لكنها ما زالت محظورة في الفضاء العام، شخصية كانت أو سياسية.

ليس هناك أسوأ من أن يتوجه أي مسؤول إلى المتظاهرين في بلده بمثل هذه اللغة التي تعتقد أن الاحتجاجات تنطلق بكبسة زر وتتوقف بالطريقة نفسها

هؤلاء الشباب الذين يشكلون نسبة تفوق الستين في المئة تقريبا من الشعب الإيراني شريحة لا يمكن التعامل معها بهذه الطريقة ناهيك من أن اتهامها المباشر أو المبطن بالعمالة للغرب لا يمكن أن يقدم أو يؤخر فقد ولد هؤلاء وكبروا في بيئة سياسية واجتماعية مغلقة، واضح أنهم لم يعد لهم قِبَلٌ بمزيد تحملها، خاصة وقد باتوا على دراية كاملة بكيف يعيش أقرانهم في باقي أصقاع العالم، فكان من الطبيعي أن الشابة الإيرانية مثلا لم تعد تقبل أن يُفرض عليها الحجاب وأن تزجر من قبل الشرطة بسببه بل وأن تُقتل كذلك. لقد أدت ممارسات السلطة مع النساء وغيرهن إلى تنفير من كل ما له علاقة بالدين والمتدينين، بل إن نسبة كبيرة منهم باتت ملحدة مرة واحدة، كما يؤكد ذلك عديد العارفين بالمجتمع الإيراني طالما أنه من الصعب الظفر بمعلومات موثقة في هذا الشأن.
المظاهرات الشبابية الأخيرة المناهضة للنظام في إيران ليست الأولى فقد سبقتها في السنوات الماضية موجات عدة، طالت أو قصرت قبل السيطرة عليها، لكن الأمور هذه المرة تبدو مختلفة ومتعلقة برفض كامل لنمط المجتمع السائد منذ أكثر من أربعة عقود، ومن غير المناسب تجاهل هذه الرسالة من أصحاب القرار وإرجاعها كالعادة إلى مجرد مؤامرة خارجية.
لم يعد ممكنا في عالم اليوم استمراء تكميم الأفواه وقمع تطلعات جيل كامل من الشباب لم يشارك في ثورة الإطاحة بالشاه عام 1979 ولم تعد الشعارات الثورية تغريه حين يراها مجرد دعاية لتبرير استمرار نفس السياسات ونفس الأشخاص وخاصة رجال الدين الذين يتحكمون بالكامل في دفة الأمور، فضلا عن عدم اقتناع أغلب هؤلاء بوجاهة سياسة بلادهم في أكثر من بلد مثل سوريا والعراق ولبنان واليمن وغيرها.
صحيح أن نظام الحكم في طهران له صيغته «الديمقراطية» الفريدة التي سمحت بتداول سلمي على السلطة يتغير فيها الرؤساء والأغلبيات البرلمانية، مع صراع تقليدي بين «محافظين» و«إصلاحيين» لكنها «ديمقراطية» تظل في النهاية مجرد حركة داخل نفس الدائرة المغلقة المعتادة. مثل هذا المشهد استطاع أن يصمد لأربعة عقود، وله مؤيدوه طبعا وخاصة في الأرياف، لكنه يبدو اليوم وكأنه استنفد أغراضه ويحتاج إلى مراجعة كبيرة وجريئة.
حين وصل الرئيس محمد خاتمي إلى الرئاسة بدا وكأن النظام عثر أخيرا على المعادلة المناسبة للتغيير وتجديد الخطاب والسياسات لكن الأمر لم يستمر طويلا إذ سرعان ما اتضح أن الأمور ليست بهذه السهولة وأن المرجعية الدينية هي صاحبة القول الفصل، ثم إن تعرض إيران طوال هذه السنوات لسلسة طويلة من العقوبات ومن حصار شديد لم يؤد فقط إلى مزيد تأجيج السخط الشعبي من الضائقة المعيشية بشكل عام، وإنما أيضا إلى غضب واسع من غياب الحريات المختلفة مما جعل المواطن منهكا اقتصاديا وفي نفس الوقت مختنقا سياسيا واجتماعيا. واضح أن الأمر صار أكبر من القدرة على الاحتمال.

نقلا عن القدس العربي 

أربعاء, 02/11/2022 - 18:16