ما لا نهاية!

خالد الفاظل

بمناسبة اليوم العالمي للرياضيات، كنت تلميذا مهملا بالمعنى الفلسفي وليس بالمعني الفيزيائي الذي يحيل إلى التشويش والغياب والضجيج. كان أستاذي للرياضيات في الإعدادية أحمدو ولد عبد الله شقيق أستاذ العلوم الشهير الملقب (كيهيدي)، يعتقد أنني قريب من هذه المادة الشبيهة بالثقوب السوداء، فهي ساحرة ومجنونة وتبتلع كل ما يقترب منها. لكنني للأسف خيبت توقعاته عندما صعدت نحو الثانوية بخطوات متعرجة وعثرت فيها على مكتبة اعتبرتها كنزا معرفيا في مدينة بلا مكتبة عامة للأسف. انشغلت بالمكتبة وتركت ما يقدم على السبورة من دروس متراكما ومنسيا حتى ليال الاختبارات والامتحانات. بقيت في دائرة المعرفة الموازية حتى استيقظت على وجه الباكلوريا مكفهرا وعبوسا وهو يرمقني بنظرات باردة ويخاطبني بصوت مبحوح، ليفصح لي بأن الطريق للمستقبل يتطلب الواقعية والاجتهاد، قائلا:

 

- المعرفة لابد لها من الشهادات، إنها الدليل الوحيد أنك ذهبت إلى المدرسة ومسحت التجاعيد الكيميائية للسبورة، بقطعة من اسفنج مبللة بذرة أكسجين تطوقها ذرتا هيدروجين..

 

لم أتشجع للهجرة نحو باكلوريا الآداب والقفز من فوق حائط الرياضيات، لأنني كنت أراجع مادة التربية الإسلامية بالتطبيق والفهم وليس الحفظ والنقل، ولست مستعدا لحفظ مقال من الفلسفة دون أن استوعبه بالشك، أو أن أتسلق قصيدة عمودية شاهقة دون اعتبار لإمكانية السقوط الحر تحت تأثير الجاذبية وحسب. وبخصوص التاريخ، وهو أكثر شيء أحببت التوغل في غوامضه الكامنة بطيات الأنثروبولوجيا وعلم الآثار وحتى السياسية، فظننته انتهى مثل فرانسيس فوكوياما، لكنه في الحقيقية لا ينتهي، ولا يوجد إنسان أخير لا يشبه الإنسان الأول في صراعاته السرمدية وبحثه الدؤوب عن السعادة والبقاء المحفوفة أبعادهما المتسعة باستمرار بالأنانية والتفوق. لذلك كنت مجبرا على التصالح مع المواد العلمية وإصلاح ما أفسده الإصلاح، ولفهم الفيزياء، كان لابد من التطبيع مع الرياضيات. لذلك ذهبت للرياضيات للسلام عليها والتفاوض معها بالتراجع. عندما خلعت أحذيتي على عتباتها المتتالية العقبات، اكتشفت أن تجاوز (ميدان التعريف) إلى (جدول التغيرات) كاد أن يقودوني عديد المرات إلى (ما لانهاية) من الخيبات العقدية، وهو شيء فظيع حقا في لحظات الانعطاف الجادة. أخذت كتابا صغيرا أتذكر أن غلافه كان بألوان سماوية مبهجة لرسام سابق مثلي، وكان الكتاب يحتوي على تمارين رفقة حلولها. دخلت أحد البيوت مع ذلك الكتاب وأغلقت الباب جيدا حتى لا تزعجنا السبورة. وقلت للسيدة الرياضيات سنبقى وحدنا هنا بمفردنا كل يوم من الصباح الباكر وحتى ما بعد الظهيرة حتى يتبين لي الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وأعرف أين هي المشكلة بالضبط. بعد أسابيع من تطاير غبار النهايات والمقاربات بدأت استمتع بالأمر وبات عقلي مستعدا للنظر نحو السبورة بتركيز. اكتشفت يومها بأن أكبر قوة تغيير ينتجها الإنسان هي تلك التي تأتي بصدق وجدية من أعماق نفسه، مصداقا لقوله تعالي في سورة الرعد: (( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ )). عندما بدأت فهم ميدان التعريف بشكل أكثر عمقا، حاولت كتابة ميدان تعريف عمر الإنسان بشكل رياضي في ورقة بيضاء وبدا لي الأمر مقلقا ومطمئنا على حد سواء.. 

 

 ] ∞ + ; البعث] ∪ ] الموت ; الولادة ]

 

ملاحظة: لست من أهل الرياضيات للأسف، الرياضيات عميقة وشاقة.. فقط هذه قصة كفاحي مع الرياضيات والحمد لله على السلامة على كل حال..

جمعة, 17/03/2023 - 16:06