في التصور المهيمن على إسرائيل، المسألة الفلسطينية من أساسها هي مسألة «غير طبيعية» نشأت في أعقاب حرب 1948 نتيجة لرفض البلدان العربية المتدخلة والمهزومة في هذه الحرب منح جنسياتها لعرب فلسطين الذين لجأوا إليها، وآثرت بدل ذلك الإسراف في غنائيات «سنرجع يوما» و«جيش التحرير ع الباب مستني يعود لدياره» و«خطة تحويل منابع نهر الأردن».
تكمن «الخطيئة الأصلية» للفلسطينيين، وفقا لهذا التصور، في استنساخ «المسألة اليهودية» والحل القومي ـ الصهيوني لها، ومواجهة «قانون العودة» لكل يهود الشتات إلى الأرض بحق العودة للساكنين المقتلعين، بل «سرقة» ثنائية «المنفى والأرض» ذاتها، وإعمال التناص فيها، في كل شاردة وواردة.
وفقا لهذا التصور، الذي لم يُراجَع أبدا بشكل جدي في إسرائيل على مستوى مؤسستها الحاكمة ونخبها السياسية والثقافية النافذة، فقد ابتدعت «المسألة الفلسطينية» مسألة يهودية «مزورة» ومضادة.
في الأساس، لا يتحمل الفلسطينيون أنفسهم، بالنسبة الى هذا التصور المديد، إثم «تلفيق» هكذا قضية، أيا كانت مسؤولية المفتي أمين الحسيني وتعاونه مع الألمان، وحاجة الدعاية الصهيونية لابتداع «جذور فلسطينية» للمحرقة الألمانية بحق يهود أوروبا. فالمبالغة في تقدير دور الحاج أمين مسألة شائكة عند الصهاينة، لأنها ستعني الاعتراف بذاتية وطنية فلسطينية غير مختلقة، وما هذا هو المقصود.
المسؤولية الكبرى تقع بالتالي على البلدان العربية بعد النكبة. لم تحث اللاجئين إليها على الذوبان فيها والسلام، وما كان يضير لها ضير. إذ أنها كانت تتسع إليهم، بخاصة بعد أن رُحلَ اليهود من هذه البلدان، في اتجاه إسرائيل. ولو أن هذه البلدان فوتت على نفسها المتاهة، وسارعت إلى دمج اللاجئين بها منذ نهاية الأربعينيات، كما دمج غرب الضفة بشرقها، وغزة بمصر، لكان السلام مع هذه البلدان ممكنا منذ الخمسينيات.
في السردية الإسرائيلية «التاريخية» تتحمل البلدان العربية إذن مسؤولية جر الشرق الأوسط إلى المستنقع ردا على هزيمتها في حرب 1948، واختلاق «قضية فلسطينية» عبثية. فهذه كمثل أن لا توطن ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية الألمان المطرودين من بروسيا الشرقية، وقد ضمها الاتحاد السوفياتي إليه، وألمان السوديت المطرودين من تشيكوسلوفاكيا، فيها، وأن لا تمنحهم جنسيتها، وتبقيهم في مخيمات، وترفع لهم شعار «العودة».
لا يستطيع التصور الصهيوني أن يفهم كيف أن بلدان «الطوق» لا هي أشرفت على تذويب الفلسطينيين فيها، ولا على دمج المناطق التي سيطرت عليها بعد 1948 من فلسطين، ولا هي فكرت في الوقت نفسه في حق تقرير المصير في هذه المناطق.
فبين 1948 و1967 كانت الضفة وقطاع غزة تحت التاج الأردني والحكم العسكري المصري، ولم يحتمل جمال عبد الناصر الحاج أمين لا في القاهرة ولا في غزة فنفاه أواخر الخمسينيات إلى لبنان، وتعاقب الضباط المصريون فقط على إدارة شؤون القطاع. أما منظمة التحرير المستحدثة بعد قمة القاهرة 1964 فبقيت الفصائل الفعلية، وعلى رأسها «فتح» خارجها إلى ما بعد نكسة 1967. ازدواجية الأنظمة العربية هذه، المتمثلة بالحؤول دون دمج عرب فلسطين والأجزاء التي بقيت عام 1948 عربية من فلسطين بها، وإقفال باب الصراع، والحؤول في الوقت نفسه دون إقامة كيان وطني فلسطيني سواء في الضفة أو في غزة بين 1948 و1967 هي التي أدت إلى «ابتداع» المسألة الفلسطينية.
هذا التصور الإسرائيلي المزمن يبدو «هَلوَسيا» للعرب، وهو بالفعل يحوي على كمية من «الهلوسة» لا بأس بها. لكنه يحوي أيضا على إقرار بأن الحركة الصهيونية ومن بعدها المؤسسة الحاكمة في إسرائيل عندما يتصل الأمر بالفلسطينيين فهي لا تراهم إلا كعرب.
بمعنى ما، الحركة الصهيونية تتبنى المنظارين القومي العربي والإسلامي الجامع عندما تنظر الى الفلسطينيين. هم جزء من كل، وليس لهم وجود الا ضمن هذا الكل العربي ـ الإسلامي، وبالتالي حقهم المفترض أن ينالوه من أمتهم الأم العربية و/أو الإسلامية.
الحركة الصهيونية تتبنى المنظارين القومي العربي والإسلامي الجامع عندما تنظر الى الفلسطينيين على أنهم جزء من كل، وليس لهم وجود إلا ضمن هذا الكل العربي ـ الإسلامي
كنتيجة للعبة المزدوجة العربية، الرافضة دمج ما بقي من فلسطين بالبلدان العربية القائمة، والرافضة في الوقت نفسه منح ما بقي من فلسطين (الضفة وغزة) إطارا كيانيا خاصا بها، ارتفع التوتر مع إسرائيل، بعد 1964 وعلى نحو متسارع، وفي إطار مزايدة عربية ـ عربية تستظل بالمسألة الفلسطينية، ثم تقارب المزايدون على بعضهم البعض في أيار/مايو 1967 فكانت هزيمتهم على يد إسرائيل بعد ذلك بأسابيع. هنا لا تعود السردية المهيمنة على إسرائيل تفهم كيف تحولت المطالبة آنذاك بمنح كيان للفلسطينيين على الأراضي التي كانت تحت سيطرة مصر والأردن بين 1948 و1967 ولم يفكر فيه حينه بأن يبنى فيها إطار فلسطيني من أي نوع!
حدث بعد ذلك افتراق بين ما يراه اليمين وبين ما يراه اليسار في إسرائيل. اليسار خائف من الديموغرافيا الفلسطينية أكثر من اليمين، وبالتالي يهمه أن تحصر الكتلة الكبرى من هذه الديموغرافية في إطار فلسطيني ما، شحيح السيادة، إن لم يكن من دونها، إنما بما لا يؤسس لحالة «لبنانية» يصير فيها العرب المسلمون هم الأكثرية على مستوى كامل النطاق الذي يتبع الدولة الإسرائيلية سواء على نحو واضح، أو على نحو «غير محدد» الصفة. أما اليمين ففكرته الرئيسية منذ نهاية الستينيات أنه لا داعي للعجلة. ينبغي العمل على تبديل الأوضاع في المناطق المحتلة، وقطع الطريق أمام أي «كيانية» فلسطينية جدية، فهذه لا تقل خطورة عن الديموغرافيا، ومواجهة كل من الديموغرافيا والكيانية الفلسطينيتين معا يكون بالتشديد على يهودية الدولة، وأن لا دولة فعلية غيرها غرب نهر الأردن.
يبقى أن هذا الافتراق بين اليمين واليسار الصهيونيين لم يجاوز حدود الاتفاق على المنظار الأساسي، وهو أن المسألة الفلسطينية «مختلقة» وأن وراء اختلاقها يقف عقل عربي – إسلامي يجد في هذه المسألة ضالته لتعليق فشله أولا في بناء الدول الوطنية ومتابعة النهضة الحضارية، لا بل يفوت على نفسه إسهام إسرائيل نفسها في هكذا نهضة، ولإخراج المكنون ثانيا من معاداة لليهود لها أصول مختلفة عن معاداة الأوروبيين لهم، وهذه المعاداة المختلفة يهود البلدان العربية «أخبر بها» ويمكن أن تصاغ مجازيا على النحو التالي: على امتداد أربعة عشر قرنا، كان اليهود في ديار الإسلام يتقربون للمسلمين، ويجمع بينهم تصور للخالق المنزه عن أن يكون ولدا، وشرائع دينية متشابهة، توصي بالختان وتحرم أكل لحم الخنزير، ومع ذلك غلب على المسلمين تفضيل النصارى على اليهود، سواء في تراثهم الديني أو في أعمالهم ومصالحهم، ومع أن بلاد المسلمين كانت في كل ذلك الوقت ما بين حرب وهدنة فحرب مع الروم والإفرنج وممالك المسيحيين. وفقا لهذا التصور، الذي أخرج الكثير من المكنون، كانت «المنبوذية» لليهود وليس للمسيحيين تحت حكم الإسلام، هذا قبل أن يسارع مسيحيو الشرق العثماني لاستيراد اللاسامية الأوروبية المنشأ ويختلط الحابل بالنابل.
اليوم، يجري في إسرائيل استنهاض هذا التصور المزمن بشأن السمة «المبتدعة» للمسألة الفلسطينية، وبشأن نبذ إسلامي عميق لليهود اختلط في العصر الحديث مع اللاسامية الأوروبية المنشأ، ويجري التعامل مع «حماس» و«قطاع غزة» من دون تمييز جدي بين الحركة والسكان، على أنهما بمثابة تجسيد لهذا الاختلاق للمسألة الفلسطينية، وللجذر «اليهوفوبي» الذي لا يفسر سر هذا الاختلاق إلا به. والحال هذه، يندفع هذا المنطوق للقول بأنه على «المسألة اليهودية» أن تقتل «المسألة الفلسطينية» مجسدة بهذه الحركة المجسدة هي الأخرى بهؤلاء السكان!
في المنطق الصهيوني ليست حماس معادية لليهود إلا لأن المسألة الفلسطينية «بدعة» فبركتها الحاجة الى قضية يعلق عليها العرب عثراتهم، ويخرجون منها مكنوناتهم ضد اليهود على مر التاريخ.
ليس هناك في هذا المنطق الصهيوني تسويغ للسيطرة والهيمنة فقط. به أيضا مس من الجنون سحيق. وبه في الوقت نفسه وقائع ومعطيات من تاريخ العرب وحاضرهم لا تنفع المكابرة عليها.
فأيام اليهود في حضارة الإسلام لم تكن كلها وردية، وتفضيل المسيحيين عليهم، رغم ضراوة الصراع مع ممالك المسيحيين، ليست فقط مجرد ترهات يغرق بها المزراحيم في إسرائيل، واللعبة المزدوجة للأنظمة العربية بين 1948 و1967 حصلت بالفعل، لكن كل هذا لا يلغي، بل يتكامل، مع واقعة أن شعبا «أوجد نفسه» بطرد شعب آخر من أرضه. وكان من سوء حظ المنتصر الاستعماري ان لا يندثر الشعب المقتلع، بل أن يقتبس من «المسألة اليهودية» ويحاكي ذاكرات ومآسي جميع السكان الأصليين في كل الكوكب، ويظل في الوقت نفسه «غير مقطوع» من الشجرة العربية والإسلامية رغم كثرة ما حل بها من تهافت وبهتان.
الدولة التي نشأت من اجتماع مشروع حل قومي للمسألة اليهودية يريد تحاشي اللاسامية الأوروبية، مع حصيلة بلوغ هذه اللاسامية الأوروبية الذروة من خلال المحرقة النازية، قامت في الوقت نفسه على التطهير الاثني على أرض فلسطين، وكان أكثر ما يناسبها طمس هذا الأمر، بالاعتماد على صلة نسب عرب فلسطين بباقي العرب بما يفترض حسب الصهاينة أن يسرع ذوبانهم في الكل العربي. لم يحدث هذا. بل حدث تاريخ طويل من اضطهاد شعب لشعب وليس فقط دولة لشعب بلا دولة، الى أن وصل هذا الاضطهاد الى ذروته اليوم، باعتماد منطق الرد على «بوغروم» حماس بحرب إبادة وترحيل لقطاع غزة. فالحرب الحالية تراهن بكل ما في جعبة إسرائيل والغرب اليوم، بأن المسألة الفلسطينية «مختلقة» من الأساس، لأنها نتيجة اجتماع الحاجة العربية لتبرير الاخفاق الحضاري مع معاداة إسلامية دفينة لليهود مختلطة مع اللاسامية الأوروبية في العصر الحديث.
نقلا عن القدس العربي