يبدو أن الردة الساحقة الماحقة التي جرت في موريتانيا بعد عرسها الديمقراطي الذي توَّجَهُ مهرجان تبادل السلطة بين رئيسين من الأغلبية منتخبين، يوم 1 أغسطس 2019، قد أحدثت زلزالا كبيرا في إفريقيا، وخلقت في بعض أقطارها هزات أعمق وأقوى مما خلقته في موريتانيا! إذ استيقظت فيها وساوس النكوص عن الديمقراطية لدى النخب الحاكمة، وبدأ التشكيك من جديد في صلاحية وملاءمة الديمقراطية للبيئة الإفريقية، وتسويغ الاستبداد والتشبث بالسلطة ملة، حتى لا يصار إلى ما صار إليه الرئيس محمد ولد عبد العزيز من طرف أغلبيته، وعلى يد أقرب المقربين منه! ونصَّب بعضهم أنفسهم ملوكا وأوصياء على الشعوب!
وعلى هذا الأساس الرجعي، جرت محاولات تعديل دساتير بعض دول القارة لإتاحة البقاء في السلطة لرؤسائها؛ كغينيا مثلا التي كانت فاتورة تعديل دستورها 31 قتيلا وانقلابا عسكريا واعتقال ومحاكمة الرئيس "المنتخب"!
وفي دول أخرى تم اللجوء إلى حيل بهلوانية ترمي في الظاهر إلى التشبث بالشكل الديمقراطي، وتسعى في الباطن إلى إلغاء المضمون وفرض أوصياء يرعون مصالح المستعمر وأوليائه المترفين، والحيلولة بالقوة والقهر دون انتصار إرادة شعوبهم في الإصلاح والتغيير والانعتاق!
ومن أمثلة النوع الأخير ما جرى في السنغال المجاورة، حين حاول الرئيس المنتهية ولايته الوقوف بخشونة ضد إرادة وخيار الشعب، وفرض وصي عليه، فسجن زعماء المعارضة وحل حزبهم، ونكل بالمحتجين، وسَنَّ قوانين تقضي بتأجيل الانتخابات أشهرا تتيح له ترتيب أوراقه وإنجاح خطته!
وقد فشل هذا المسعى هو الآخر، كما فشلت مساعي تعديل الدساتير، وكلف ثمنا غاليا من أبرز فواتيره: سقوط أزيد من 60 قتيلا، وانهيار الحزب الحاكم، وخروج الرئيس ماكي صال رغم إنجازاته الكثيرة من السلطة ملوما مدحورا، عقابا على ما ختم به مأموريتيه من أخطاء، وانتصار المعارضة الساحق.
ولم يكن ليتحقق ذلك كله لولا توفر ثلاثة عوامل هي:
1. وعي الشعب السنغالي العظيم، وتشبثه بحقوقه، وحرصه على رعاية وحماية مصالحه؛ خلافا لما عليه الحال عندنا الآن للأسف، ووجود نخبة شابة مثقفة صالحة، ومعارضة وطنية واعية ومخلصة ومؤهلة، وغياب وبال القبلية والجهوية والمحسوبية في السنغال، وانحسار الفساد في حدود.
2. وجود دولة مؤسسات؛ فقد أحبطت مؤسسة المجلس الدستوري جميع مساعي الرئيس والحكومة والبرلمان لمخالفتها للدستور، وفرضت إجراء الانتخابات في أجلها، واحترام سيادة القانون، وخلق أجواء ملائمة لسير الانتخابات بسلام وشفافية. الشيء الذي فرض على السلطة الانصياع للشرعية وإصدار عفو عام عن جميع المعتقلين السياسيين، ومن بينهم زعيم المعارضة عسمان سونكو والرئيس بسيرو فاي.
3. وجود جيش جمهوري لا يتدخل في السياسة. فبالرغم مما آلت إليه الأوضاع من سخونة في السنغال، ومن تهديد ماكي صال للطبقة السياسية باحتمال تدخل الجيش لإنقاذ البلاد من الصراعات السياسية، فإن الجيش السنغالي ظل متشبثا بالشرعية، خاضعا للقانون، مستنكفا عن الخوض في السياسة والميل لطرف على حساب طرف!
ولكي يكون الحديث عن انتصار إرادة الشعب السنغالي مفيدا لا بد أن نعرج في النهاية على الدروس والعبر التي يمكننا – نحن الموريتانيين- استخلاصها من هذا النبأ العظيم. ومن أبرزها وأهمها ما يلي:
1. أن إرادة الشعوب - أيا كانت، ومهما كانت- لا تقهر أبدا. ويجب الإيمان بذلك والرهان عليه، فهو "سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا"! وبهذا القول بين المزدوجتين كان يرد الشيخ محمد سالم ولد عدود رحمه الله على منتقدي قول أبي القاسم الشابي رحمه الله:
إذا الشعب يوما أراد الحياة ** فلا بد أن يستجيب القدر.
ومن الشواهد على ذلك ملحمة الفلسطينيين وانتصاراتهم على أحد أقوى جيوش العالم، وعلى أعتى نظام عنصري إرهابي يحميه ويرعاه الغرب كله، ويمده بالرجال والسلاح والتكنولوجيا الحديثة!
وهذا درس مهم ومفيد لنا نحن الموريتانيين؛ خاصة في هذه الفترة الحالكة من حياتنا. فإرادة شعبنا سوف تنتصر حتما إن عاجلا أو آجلا!
2. أن ما جرى في السنغال، ليس تداولا عاديا وسلميا للسلطة، وليس انقلابا عسكريا سرعانما ينغمس قادته في خضم تقاسم الكعكة والعمل داخليا على تثبيت سلطتهم؛ بل هو ثورة شبابية طموحة. وعليه فإن على جيران السنغال أن يحسبوا لذلك ألف حساب؛ وخاصة موريتانيا التي لديها مع السنغال أواصر متعددة، ومصالح مشتركة، ولها معه أيضا خصومات ومظالم كثيرة. فعليها أن تستيقظ من سباتها العميق، وتتمثل وتعمل بقول رشيد ابن رميض:
هـذا أوان الشد فاشتدي زيم ** قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا عنم ** ولا بجزار على ظهر وضم.
يضاف إلى ذلك أن موريتانيا محاطة اليوم بالأخطار من جميع الجهات: الحرب الأهلية وفاغنر والإرهاب من الشرق، وصواعق التنافس والصراع الأبديين بين المغرب والجزائر من الشمال! ناهيك عن سرطان الفساد والاستبداد الداخلي، وعن عوامل المجاعة والجفاف وطوفان اللاجئين وضعف وغياب الدولة!
3. أن الدولة والقبيلة شيئان متناقضان تناقضا عدائيا! وهذا عصر الدول. ومن المؤكد استحالة بناء دولة قابلة للبقاء دون توفر ثلاثة شروط أساسية مفقودة لدينا هي: قضاء مستقل، ودولة مؤسسات، وجيش جمهوري قوي! والله المستعان
4. أن التغيير قادم لا محالة. وستنتقل إلينا عدوى ما يجري في السنغال عاجلا أو آجلا رغم اختلاف الأوضاع! لكن لن تستطيع رياح الجنوب اقتلاع الأوضاع المتردية لحد الانهيار في موريتانيا، ما لم تتغير عقليات الناس {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. ولذلك يلزم أن تتضافر جهود قوى التغيير؛ وخاصة الشباب القادر على ذلك والمستفيد منه قبل غيره، من أجل القيام بثورة ثقافية تهذب الناس، وتنتشلهم من وحل الأنانية واللامبالاة والتخلف والانحطاط، وتربيهم بتعاليم الإسلام الصحيح من قرآن وسنة وسيرة، وبقيم العدل والمروءة والورع والقناعة والشجاعة والوفاء والمساواة التي درج عليها أجدادنا من قبلُ، وبأفكار وتجارب شعوب الأرض؛ كأفكار وفلسفة النهضة في الغرب، وتاريخ ثورات فرنسا وروسيا والصين والجزائر وكوبا ومصر جمال عبد الناصر وإيران مصدق والخميني، وحسن نصر الله، وتشافيز، وحماس!