ومن نقاط التقاطع بين النقد الشنقيطي، والنقد العربي القديم، استخدام البيئة والعادات، وتطويعها لتكون حقلا دلاليا للمصطلحات النقدية، وهو ما يعبر عن سذاجة وبدائية في الأحكام، وإذا علمنا أن النقد الشنقيطي شفوي بطبعه، وأنه كان يلقَى عرضا في المجالس العادية، والتي قد لا يكون أصحابها متساوين في الفهم والاستيعاب، فإننا لن نستغرب استخدام النقاد للبيئة المتعارف عليها، كمصطلحات لتقييم النصوص حتى يتم تقريب الرأي فيها من الجميع، وهي – في اعتقادنا – الأسباب نفسها التي حدت بالنقاد العرب إلى ذلك، فقد وظفوا "حياة البداوة في اختيار المصطلح، فكان مصطلح الفحولة الذي اختاره الأصمعي، مستمدا من طبيعة حيوان الصحراء – وخاصة الجمل- واستعار صاحب كتاب (قواعد الشعر) مصطلحه من الخيل، حين جعل الأبيات غراء ومحجلة ومرجلة، ومن المدهش أن حازما رغم اتساع المصطلح لديه عاد – بعد قرون- يستعمل مصطلحين مستمدين من الفرس وهما التسويم والتحجيل، وحسبنا أن نذكر مصطلح (عمود الشعر) الذي نلقاه لأول مرة عند الآمدي، فإنه وثيق الصلة بالخباء ".
ومن أمثلة هذا النقد المرتبط بالبيئة عند الشناقطة، ما قاله الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل عندما استمع إلى أشعار المأمون بن الصوفي ومولود بن أحمد الجواد ومحمد ابن الطلبة : "إن شعر المأمون عسل، وشعر مولود فحل، وشعر محمد جاهلي ".
ومنه ما علق به محمدن فال بن متالي على شعر المأمون بن الصوفي، عندما قال : إن "شعره مخ شاة .. قليل وجيد ".
وكذلك قول محمد ابن الطلبة لما سئل عن شعر مولود بن أحمد الجواد : "هو أكثر حلفة، وأنا أفتل"، ويعلق صاحب الوسيط على هذا الرأي بقوله : "الحلفة هي سعف الحلفاء، وأهل الصحراء، يفتلون منها الحبال، يعني أن مولودا أكثر منه لغة، وهو أجود منه نسجا".
أما محمد ابن حنبل فعندما مدح الشيخ سيديا بقصيدته، التي مطلعها :
عج بي على دمن النقا فمغاني نهي الغضاة فمرقب الصيران
صرف منها 20 بيتا في وصف روض ممطر، من بلاد (آفطوط) ثم تخلص إلى مدح شيخه، وقد أوحت هذه المقدمة الطويلة بملاحظة طريفة لأحد القراء المجهولين، ولا زالت تتردد عند أهل الأدب من الشناقطة، وهي قوله : (إن القصيدة ذهب آفطوط بأجودها)، ولذلك دلالته لما نحن بصدده من ربط أيقونات البيئة، بالمصطلح النقدي عند الشناقطة .
فهذه الملاحظة التي أبداها القارىء المذكور، هي تعبير عن إحساس بأن مقدمة القصيدة أخذت من الكم والكيف أكثر مما توليها التقاليد.
و هذا عبد الله بن الشيخ سيديا يقول "إن شعر محمد الأمين بن الشيخ المعلوم البصادي، يمكن أن يعزل بالعصا عن أشعار معاصريه، لحسنه".
هذه إذن بعض الآراء التي امتحت مصطلحها النقدي من بيئتها، واستطاعت به، أن تخرج النقد من جلباب المصطلح الفني، وتوصله إلى المتلقي العادي، عن طريق التمثيل له بما يعرف .
كتابنا (نقد الشعر الفصيح عند الشناقطة) - ص 164