نحو تلال الأقدار الشاهقة والبعيدة

خالد الفاظل

خالد الفاظل

كان الصعود على حواف المنحدرات السحيقة

 

كانت الكلمات تذوب في أصداء الريح

 

وكانت ألوان الشروق تحترق في صمت الآفاق

 

وكانت ظلال المسافات تتموج على جدران الروح على ضوء نار قادم من بعيد…

 

اقترب الضوء أكثر

 

ودنت السماء من الأرض

 

اقتربت أصوات الطبول البعيدة وأهازيج الحصاد

 

وتراقصت السنابل الخضراء في الحقول

 

وجاء من أقصى الأقدار؛ رجل يسعى

 

نظراته من خلف انحناءات اللثام؛ جابت بقاعا كثيرة؛ غابات مطيرة؛ وصحاري، وجبالا مغطاة بالثلوج..

 

ثم أنزل أمتعته عن كاهل الحكايات

 

فاستنشق روائح الأتربة، عطورا

 

ورأى البيوت المكسوة بالتجاعيد، قصورا مطلية بالرخام

 

وأشجار الطلح الشاحبة، مغطاة بالشموع والهدايا

 

اقتربت الغيمة البيضاء

 

وحضرت الملائكة

 

ذابت الغيمة البيضاء؛ في الغيمة القادمة من بعيد

 

وأصبحتا غيمة واحدة

 

ثم تصاعدت الأناشيد والصلوات

 

وباتت الطريق إلى السماء سالكة

 

ومحفوفة بالقصائد و النيازك..

 

جاءت النسائم الباردة

 

وتحركت الستائر وتصاعدت روائح البخور في سمرقند

 

وعبرت القوافل طريق الحرير

 

وجاء المغول

 

وسقطت بغداد

 

ثم نهضت بغداد مرة أخرى

 

وظل شارع المتنبي يعج بالقراء

 

وبالباحثين عن المعنى في طيات المجاز!

 

وكانت بداية الحكاية..

 

عندما اقتحم فرنسي يدعى كبولاني بلاد الملثمين المنزوية على تخوم المجابات الكبرى

 

وقرر البدو الرحل جعل رواحلهم السميكة؛ على شكل أبنية من الأسمنت مثبتة على الرمال المتحركة، للانتقام من تلك الرياح السرمدية، التي طالما خلعت أوتاد ذكرياتهم ورمتها خلف ظلال الغيوم المرتحلة

 

تشابكت الأقدار والأسفار الطويلة..

 

وقبل الحكاية..

 

سافر رجل من أكناف عين الصحراء أو گلب الريشات نحو ظلال الأمطار والأشجار الكثيفة الظلال

 

وخاض رجل آخر سفرا طويلا من أعالي واد نون نحو أشجار آمور والتيدوم

 

وسافر رجل آخر من أعالي الكثبان الرملية والتيارات الباردة نحو ليال الصيف المقمرة على تخوم آوكار

 

وسافر رجل آخر من أعالي الأطلسي نحو أعماق أزواد البعيدة حتى دنا من تنبكتو

 

وسافر رجل آخر من السهول المنبسطة حتى تخوم النيجر

 

ثم لحق بهم رجل آخر سافر من تحت سفح ذلك الجبل البعيد

 

التقت ظلال الغرباء

 

بعد قرنين من تشابك الأقدار والأسفار والحكايات

 

وبعد أن حرك السنوار العصا

 

واعتدل جالسا على الأنقاض مثل طائر الفينيق

 

ونظراته الأخيرة نحو السماء المتدثرة بالدخان والركام

 

وفي مشهد آخر من الدراما الإنسانية؛ نهض ذلك الرجل الذي جاء من أقصى الأقدار من ركام التأملات في منتصف البحث عن المعنى.

 

كانت الشمس مشرقة

 

والسماء متدثرة في زرقة شاحبة

 

ثم ذهب نحو الدكان المجاور..

 

وهو في الطريق المفروشة بركام الأسفار والحكايات؛ مر على الجزار وهو يشحذ سكاكينه، وببائعات الخضار وهن يرتبن بضاعتهن، وبالصيدلية المسندة أدويتها على الجدار، وبباعة الخبز وأصواتهم تستبق نظرات العابرين…

 

وجد البائع أمام الرفوف

 

يرتب أكياس البيض وحزم النعناع

 

نظر إلى الرفوف بتمعن، وظن البضائع كُتبا، وقال في نفسه وهو ينتعل أحذية داكنة تشبه ألوان الأرض:

 

- ربما هذا هو المعنى والمغزى من الحياة! أن تحرك العصا وتسعى مع الأقدار؛ حتى تأتي اللحظة التي يصبح فيها النظر إلى السماء لا مفر منه، وآخر لقطة من رحلة تشابك الأسفار والحكايات، ومن تدافع المعتقدات والفلسفات والتصورات والأفكار والمعارف والعواطف والأوهام والوساوس وخيالات البشر المُجنحة، ثم يأتي ذلك اليوم ويُقال:

 

(( اَ۬للَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَ۬لْقِيَٰمَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَۖ ))

 

ثم التفت للبائع وقال له:

 

- طيني بطة من گلوريا

 

ثم قال في نفسه:

 

الحياة جميلة ومدهشة؛ لكننا عابرون

 

الحياة قاسية ومتقلبة؛ لكننا عابرون

 

يجب أن نزرع، ونحصد. ونترك للقادمين بعدنا، نصيبا من البذور والأسئلة!

 

يجب أن نعيش الف عام؛ حتى وإن كان الوقت يمضي بسرعة

 

يجب أن نواصل الكتابة

 

حتى وإن بدا ذلك عملا طفوليا لا يخلو من الدهشة والسذاجة..

 

لكن البحث عن المعنى؛

 

يتطلب دائما أن نفعل أشياء لا نعرف حقا لماذا نفعلها!

 

فقط، لأن هذه هي الدراما الإنسانية بدأت بالفضول! حينما قام أبونا آدم وأمنا حواء بالاقتراب من الشجرة المحرمة في الجنَّة…

 

لتبدأ هذه الدراما الإنسانية المزدحمة بالملاحم، والتي بدأ الخير فيها بالحب والتسامح والغفران والأخطاء، لكن الشر فيها بدأ بالعنصرية والدسائس والتكبر والأحقاد…

 

(( اِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ يُحِبُّونَ اَ۬لْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماٗ ثَقِيلاٗۖ ))

 

سورة الإنسان

اثنين, 17/02/2025 - 20:19