استقلال تحت الاحتلال

نادية عصام حرحش

عندما تم اعلان الاستقلال قبل ثلاثة عقود، فرح المراهقون من أبناء جيلي فرحة، جعلت حلم رفع العلم الفلسطيني أقرب. كانت كلمة فلسطين ممنوعة من التداول، كما كان العلم برفعه او حمله او المشي بأحد ألوانه سببا لاعتقالك.

كانت الذكرى الثالثة او الرابعة ليوم الاستقلال عندما توشحت بالكوفية بداخل الجامعة العبرية وخبأتها من فوري عندما رأيت زملائي العرب يتعرضون للضرب المبرح لمحاولتهم الاحتفال بذكرى الاستقلال. في نفس اليوم قررت ان اتجرأ أكثر واخرجت بالونا بأحد ألوان العلم من السيارة، وما كان من دورية الجنود الا ان تلاحقني وتفقع البالون.

كان التعبير عن النفس ورفع العلم غاية في وجداني، تحقق بمجيء أوسلو. صار هناك الكثير من الاعلام في كل مكان وصارت كلمة فلسطين مسموحة.

وكأن حلم الاستقلال وصل الى أوجه بتحقيق غاياته، رفع علم وتسمية، والتوشح بكوفية.

اليوم وبعد ثلاثة عقود من رفع العلم بلا أي افق لدولة ولقد تمزق الوطن كما تبددت أعلامه، فلا تكاد تشاهد العلم مرفوعا على انفراد، فأعلام الفصائل المتناحرة تغلب عليه في كل مناسبة. وكأنه بالفعل، الاستقلال يرتبط بالعلم.

والاستقلال هنا يتفاوت من امال فصيل الى الاخر.

لا يمكن المرور عما جرى في غزة قبل أيام، وما جرى صبيحة اليوم كمثال صار يعكس الحال.

في غزة وضعت المقاومة علما على السياج الفاصل للحدود مع الاحتلال، وجاء الجنود لينزلوا العلم الذي تعدى الحدود. وإذ به كمين تطاير فيه الجنود الخمسة الى هشيش.

والمقاومة الباسلة التي تعرضت لسيارة كان الاحتلال يستقلها متوغلا في خان يونس، ولم يخرجوا من جولتهم السرية الا جثثا ومن نجا منهم أنقذه تدخل الطيران.

في الخليل، دخلت دورية احتلال “عابرة”، وتعرضت لحادث “بنشر”، حيث أصيب أحد العجلات في الجيب العسكري بينما كان يتوغل في المدينة التي تستعد لاحتفالا الاستقلال، وما كان من مدير شرطة الخليل وهو برتبة عقيد بالسلطة الفلسطينية الا بالهب من اجل اصلاح عجلة الدورية الإسرائيلية. ولم يكن العقيد وحده من هرع للمساعدة بينما نزل الى الأرض من اجل تغيير العجل وهو في بزيه الرسمي، يحيط به قوات الاحتلال من مجندين ومجندات بينما كان يقدم لهم الخدمة الجليلة. وعلى ما يبدو لم يكن العقيد وحده من هب للمساعدة، فتطوع معه كما تم تداوله بوسائل الاعلام بالصور شخصية عامة أخرى، وهو امين سر حركة فتح في يطا، الذي يشغل منصب عميد كلية التربية في جامعة الخليل.

في صبيحة يوم الاستقلال، الذي تغلق فيه الدوائر والوزارات والمدارس والجامعات، تقول لنا صور العقيد وامين السر عميد كلية التربية، بأن ثقافة الاستقلال تحت الاحتلال صارت تدرس وتمارس كأسلوب حياة. فما الذي نريده أكثر من هذا. تمثيل وانعكاس مباشر لدروس الوطنية والمواطنة في كتب حياتنا مع السلطة.

في وقت تسطر فيه غزة اهم واجل معاني المقاومة بالفعل الوطني العام. في وقت تجمعنا غزة تحت نشوة المقاومة وتبدد من امام اعيننا اسطورة جبروت الاحتلال. تصر سلطة أوسلو على دحض كل ما هو وطني في نفوسنا.

بين عزة غزة ومذلة ما اقترفه جنود أوسلو. هذا ما يسطر حياتنا كفلسطينيين.

ما يجري ليس من قبيل المصادفة ولا الحظ السيء لجماعة السلطة وكبار رجالها.

فليس غريبا علينا، ان يقرر الرئيس الفلسطيني عقد اجتماع بعد أسبوع من اجل تداول العدوان على غزة، في وقت توقف فيه العدوان.

وليس غريبا ان تتعطل دورية إسرائيلية تجول في الخليل ويهب رئيس الشرطة للمساعدة. فهذه هو التنسيق الأمني المقدس.

في وقت تصر فيه سلطة الرئيس عباس على تعطيل المصالحة وتقييدها بمحاولات غير متوقفة لتكسير قبضة حماس، تصر حماس على عدم ترك السلاح على الرغم من قبولها بمعظم الشروط. الا موضوع السلاح. وها قد رأينا في ام اعيننا ما الذي تفعله حماس بإعداد المقاومة للمواجهة.

السلطة من جهتها تقطع أكثر من ثلث موازنتها من اجل الامن. المباركات للترقيات والتعيينات أكثر من تلك للأفراح والتخرج. وها نحن نرى بأم اعيننا كذلك ماذا تعني رتبة عقيد في السلطة: تصليح بناشر للاحتلال كجزء من الخدمات!

في صبيحة يوم الاستقلال، ما هو التبرير الذي نقدمه لأبنائنا عن هذا اليوم؟ ما الذي يتم تدريسه لمليون طالب عطل اليوم من اجل ذكرى الاستقلال؟

كيف تتناقض الصور وكيف تتوافق في لحظة واحدة؟

انفصام حقيقي يتم بناءه في عقول أجيال متلاحقة من الفلسطينيين لاستقلال تحت احتلال.

ما الذي نتوقعه كمحصلة؟

هل نلوم العقيد مدير الشرطة وامين السر عميد كلية التربية على ما قدموه من مساعدة للدورية؟ لابد انه يتم تعليمهم في كليات الشرطة والامن الكثيرة ان أولويات الامن الفلسطيني هي في التنسيق والخدمات الأمنية. كيف نلومه ولقد قال رئيسه الأعلى ان التنسيق الأمني مقدس. فما قام به الرجلان كان واجبا تقتديه مهمتهما الأمنية والوطنية لحزبهم ومدارسهم الأمنية.

ما الذي نتوقعه من محصلة تعليم دايتون وكل هذا الانفاق من أموال على الامن؟

في المحصلة كذلك، اليوم هو يوم الاستقلال، والدورية الإسرائيلية ليست الا دورية لدولة جوار تاهت طريقها.

قد يكون المشهد مؤلما ومخزيا وهو كذلك، ولكن، لنتخيل كم حقيقي هو هذا المشهد.

فالمستعمرات تبنى بأيدي فلسطينية، والمصانع تشغل بطاقات بشرية فلسطينية، وأبناؤنا يعملون في مطاعمهم وفنادقهم ومحطات وقودهم ومشاغلهم بأحط الوظائف، ومفاوضونا يلتهثون خلفهم من اجل الجلوس على طاولة.

المشهد للعقيد وهو راكع امام بسطار الجندي يصلح العجل يشبه واقعنا بتمثيل قد يكون الأقرب لحياتنا في استقلال تحت الاحتلال.

رأي اليوم

جمعة, 16/11/2018 - 13:44