من وحي التراويح تأملات على سورة هود سرد قصصي وتثبيت عقدي

الدكتور سيد محمد العربي

انطلقت سورة هود بما ختمت به سورة يونس عليه السلام، وهو المطالبة والتوجيه والإرشاد إلى الحق والتأكيد عليه، مع إبقاء طريقي الخير والشر مفتوحين: (قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل...). وكما بدأت سورة يونس بهذه الأحرف المذهلة والمعجزة، بدأت سورة هود: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير...)، لتتصدر أوامرها وتوجيهاتها بالخطاب العقدي الذي هو أساس الخطاب الديني: (ألا تعبدوا إلا الله إني لكم منه نذير وبشير).

إن تحقيق العبادة لله تعالى يؤدي إلى سعادة دنيوية، ثم شُفِعَتِ السورة بالدعوة إلى الاستغفار والتوبة النصوح: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله...)، ثم أنذرت بعقاب شديد إن لم تترسخ عقائدهم رسوخًا صحيحًا: (فإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير)، حين يعودون إليه في اليوم الموعود: (إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير).

ثم تبدأ السورة بالإخبار عن المخلوقات وأرزاقها ومستودعاتها ومستقراتها، وكيف كان خالقها في هذه الكينونة الأزلية الأبدية وقت خلقها: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين، وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء)، في تصريح واضح وساطع إلى ملكوته المتمثل في عرشه وجبروته، لتخبر السورة - كما أخبرت أخواتها - عن الابتلاء في هذه الدنيا، والغاية منه: تحقيق العبودية لله جل شأنه: (ليبلوكم أيكم أحسن عملًا).

وفي سورة الملك: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا)، وفي سورة الذاريات: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون).

ونبهت السورة إلى أن هناك من الدهريين والجهلة من يشككون في البعث: (ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا: إن هذا إلا سحر مبين).

ثم تتحدث السورة عن الأعراض البشرية من طمع وخوف ورجاء، بناءً على الجِبِلَّة البشرية: (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه، إنه ليئوس كفور...).

وتواصل السورة في سياق متصل للحث على تحقيق العبادة، معبّرة بالمفرد في سياق الجمع، في حوار فريد متناظر مع العقل والمنطق: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها...)، (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه...)، (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا؟ أولئك يعرضون على ربهم).

ثم يضرب الخالق المثال بصيغة التثنية - بالفريقين - ولعل أهل اللغة لهم رأي بديع في السياق والتناسق: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع، هل يستويان مثلًا؟)، مختتمًا الآية باستفهام إنكاري مسكت، يخبر من جهة، ويضرب المثال من جهة أخرى، بأن الذي أعطاه الله هذه المدركات الذهنية ولم يستخدمها ولم يتذكر بها فيما تقدم من منن الخالق جل جلاله - الذي تصدرت الآيات الأولى من السورة به - قد ضل ضلالًا بعيدًا.

ثم يأتي نوع آخر من الحوار والإقناع، وهو الإخبار عن الأمم السابقة والرجال المصلحين (الرسل)، وأن الغاية والمبتغى منهم واحد، وهو تحقيق العبادة لله وحده، وتثبيت العقيدة السليمة في ذهن العقل السليم.

تبدأ بنوح عليه السلام في سرد تاريخي رائع، متناظر مع التحقيب الزمني، فنوح من أولي العزم من الرسل، وهو آدم الثاني، ومدته مع قومه تسعمائة وخمسون سنة (950)، وكيف آذاه قومه؟ وكيف صبر على أذاهم؟ وكيف طلب من ربه طريق النجاة؟ بصنع السفينة؟ وما نوع خطابه؟ وما الغاية منه؟: (لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره...)، (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا، فإذا جاء أمرنا...)، (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها...).

ثم تخبرنا السورة أنه رغم ما لنوح من العصمة والحظوة عند ربه، فإن هناك أمورًا غريبة قد لا يفهمها ولا يطلع عليها، رغم ملازمتها له، - مثل الزوجة والولد -: (ونادى نوح ابنه وكان في معزل: يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين...)، فكان الجواب: (يا نوح إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح)، بالضم والتنوين [عند نافع]، وبالفتح [عند عاصم]، وكلاهما صحيح سبعيًّا، ويدل على معنى مختلف.

ولعل هذا الابتلاء الذي تعرض له نوح في زوجه وابنه، تعرض له جل الأنبياء والمرسلين؛ إبراهيم في أبيه، ولوط في زوجه، ومحمد صلى الله عليه وسلم في بعض أهله.

ثم تصل السورة إلى مصلح آخر ورسول آخر وأمة أخرى وزمن آخر، وهو هود عليه السلام وأمته، وسنجد أن الغاية واحدة رغم عدم اتحاد الزمان والمكان، وهي تحقيق العبادة وإخلاصها لله جل جلاله، وحق ذلك التوبة النصوح والاستغفار، كما صرحت بذلك الآيات الأولى من السورة.

(وإلى عاد أخاهم هودًا، قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إن أنتم إلا مفترون.. ويا قوم لا أسألكم عليه أجرًا، إن أجري إلا على الذي فطرني، أفلا تعقلون؟ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، يرسل السماء عليكم مدرارًا، ويزدكم قوة إلى قوتكم، ولا تتولوا مجرمين).

وفي هذه الآيات وعد بنعمة من جنس النعمة التي امتن الله بها على قوم هود، وهي القوة الجسمانية: (ويزدكم قوة إلى قوتكم)، وهي سبب تعصبهم وجحودهم: (وقالوا من أشد منا قوة؟) (فصلت)، (وتنحتون من الجبال بيوتًا فارهين) (الشعراء).

ثم تذكر السورة نوعية العناد والتكذيب: (يا هود ما جئتنا ببينة...)، وكيف جاء الأمر؟ وكيف نجّى الله هودًا؟ وقد كان ذلك في سور وآيات أصرح كالشعراء والذاريات.

ثم يأتي في نفس السياق والتناسق [صالح عليه السلام]:

"وإلى ثمود أخاهم صالحًا قال: يا قوم اعبدوا الله، ما لكم من إله غيره، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها".

نفس الخطاب، على نفس النسق: تحقيق العبادة وإخلاصها. ولكن صالحًا يظهر في شخصيته المدافع عن منهجه:

"يا صالح، قد كنت فينا مرجوًّا قبل هذا، أتنْهانا...؟"

"قال: يا قوم، إن كنتُ على بيّنة من ربي، وآتاني منه رحمة..."

ويذكر أن شرط الاستخلاف في الأرض وإعمارها منوط بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الله تعالى:

"هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، فاستغفروه ثم توبوا إليه".

ولعل هذه البيّنة والرحمة هي التوحيد وإخلاص العبودية لله وحده. ثم قدّم لهم الامتحان الذي سقطوا فيه، وهي الناقة المعجزة...

ثم تذكر السورة إبراهيم عليه السلام في قصة مختلفة، رغم أن الغاية منها إعجاز الأقوام الأميين (العرب)، وحوار أصحاب الشرائع السابقة (أهل الكتاب: اليهود والنصارى) حول قصة إبراهيم في العصور الغابرة. وكيف بشّرته الملائكة بالولد بعد سنّ اليأس، وأن ذلك فضل من الله لها ولزوجها الصالح، وتثبيت لهم على معتقدهم السليم:

"فضحكت فبشرناها بإسحاق..."

"قالت: يا ويلتي، أألد وأنا عجوز...؟"

ثم تأتي السورة بنفس الجملة، لكن بسياقين مختلفين:

1. السياق الأول: بشارة بالولد الصالح والحفيد الصالح، وحل معضلة العقم مع سنّ اليأس:

"ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى..."

2. السياق الثاني: عن لوط عليه السلام وقومه، لكن الرسل هنا رسل هلاك وإهلاك لقومه، وأقرب الناس إليه -امرأته-. والسبب: إتيان الفاحشة والرذيلة المخالفة للفطرة السليمة، وتعاليم الشرائع المقدسة، ومنها شريعته:

"ولوطًا إذ قال لقومه: أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين؟ إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء، بل أنتم قوم تجهلون" [سورة النمل].

"ولما جاءت رسلنا لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذرعًا، وقال: هذا يوم عصيب..."

"ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك، إنه مصيبها ما أصابهم..."

ثم يأتي ذكر شعيب عليه السلام، وما دار بينه وبين قومه، ليتحد مع من سبقه من المصلحين [الرسل: نوح، هود، صالح عليهم السلام] في غاية أساسية، وهي تحقيق العبادة وإخلاصها لله سبحانه وتعالى:

"وإلى مدين أخاهم شعيبًا، قال: يا قوم، اعبدوا الله، ما لكم من إله غيره".

ثم تذكر السورة ما دار بينه وبين قومه من عناد واحتقار وتكذيب:

"يا شعيب، ما نفقه كثيرًا مما تقول، وإنا لنراك فينا ضعيفًا..."

ملاحظات وتنبيهات حول السورة والرسل المذكورين فيها:

1. تكرار السرد في كثير من سور القرآن بتعابير وألفاظ مختلفة، كما يظهر في سورة الشعراء:

"كذبت قوم نوح المرسلين"

"كذبت عاد المرسلين"

"كذبت ثمود المرسلين"

... إلخ.

2. تحقيق العبادة والإخلاص فيها عنوان سائد في هذه السورة، حيث تبدأ الحوارات بالمنطق، ثم ببعث الرسل إلى أقوامهم.

3. صلاح المجتمع شرط في تحقيق العبودية:

لوط: المشكلة اجتماعية (الشذوذ والفاحشة).

شعيب: المشكلة اقتصادية (التطفيف في الكيل).

4. مكانة الإنسان، ولو وصلت حد الاصطفاء الملكوتي، لن توصله إلى الاطلاع على الغيب، ولا السلامة التامة في النفس والأهل والعشير:

نوح: امْرأته وولده.

لوط: امرأته.

5. تستخلص السورة توجيهات لنبينا صلى الله عليه وسلم، وتوضيحًا لهذا القصص الرائع في مبناه ومعناه:

"ذلك من أنباء القرى نقصه عليك، منها قائم وحصيد".

(قصة الحضارة في بُعدَيْها الإنساني والمادي).

6. أسباب هلاك الشعوب والأمم وإهلاكها:

"وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد".

وأي ظلم أشد من الشرك والعناد ومجاوزة الفطرة، والفساد الاقتصادي؟

النجاة منه: "واستقم كما أمرت، ومن تاب معك...".

عدم الظلم والطغيان والتجبر.

الهلاك مصاحب للفساد، والإصلاح مصاحب للنماء:

"وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون".

7. سنن الله جارية في خلقه، ومنها سنة الاختلاف:

"ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم...".

8. الغاية والحكمة من السرد القصصي:

"وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وجاءك في هذه الحق، وموعظة وذكرى للمؤمنين".

(التثبيت، الاستقامة، وشحذ الهمم والعزيمة...).

 

 

 

سبت, 22/03/2025 - 14:47