«السلطوية التنافسية» مفهوم مفتاحي فَرَضَ نفسه على علم السياسة المعاصر، منذ اجترحه الثنائي ستيفن ليفتسكي ولوكان أي واي، في كتاب حمل هذا العنوان قبل خمسة عشر عاماً.
وقد حاول الباحثان الأمريكيان تأطير مروحة من الأنظمة الهجينة التي طفت على السطح في مرحلة ما بعد انقضاء الحرب الباردة في هذا النطاق.
فهذه أنظمة تحصل فيها انتخابات تعددية، جدّية، بل منتظمة، دون أن تكون في الوقت نفسه انتخابات عادلة. بل تُسخّر ضمنها موارد ومرافق وأجهزة الدولة لصالح النخبة الحاكمة بوجه المعارضين.
رأى الباحثان آنذاك أن هذه الطائفة من النظم لا يصلح أن ينطبق عليها توصيف «السلطوية» البحت، ولا يستقيم زجها مع أنظمة لا تعرف من الانتخاب سوى التعليب والتزوير، كما لو أن الاختلاق يقتصر على الواجهة الأمامية ليس أكثر. وفي المقابل، لا يمكن خلع مصطلح «الديمقراطية» عليها، فالانتخابات فيها استحقاق احتكاميّ شعبي منتظم إلى الصناديق، «استحقاق – مؤشر» لكنه استحقاق متساكن مع غياب أو قصور حاد في آليات اشتغال «دولة القانون» وتضييق على الحريات العامة والخاصة هي انتخابات لا تتكامل مع لعبة مؤسسية تقوم على الفصل بين السلطات وعلى تداول فعلي للسلطة، ولا تنسجم مع ازدهار فضاءات «المجتمع المفتوح» وقيمه.
الأهم، أن لفيتسكي وواي لم يتقبلا فكرة رهن هذه الأنظمة الهجينة في خانة «الانتقالـ« المقررة سلفاً وجهته، على أنه عبور من السلطوية صوب الديمقراطية. ونبّها بدلاً من ذلك الى أن هذه الظاهرة، «السلطوية الانتخابية» مرشحة للديمومة، والانتشار أكثر. في مناقضة لأدبيات التوسّع الديمقراطي على الصعيد العالمي التي ترى إلى مسار الكوكب على أنه سلسلة من موجات التحول الديمقراطي، ومن التجارب الانتقالية، التي إما أن تسرع الخطى بمنهجية أوثق في اتجاه الديمقراطية وإما أن تعود القهقرى إلى الوراء.
سيظهر في الأعوام التي باتت تفصلنا عن لحظة نشر هذا المنظار أن السلطوية الانتخابية باتت سمة شائعة أكثر حول العالم، ولا يمكن بالفعل ركنها في خانة «الانتقال الكبير نحو الديمقراطية» إلا بالتجاوز على المعطيات والحيثيات التي يمكن الاستناد اليها. بل أن الحركة الحالية على الصعيد العالمي هي لانتقال أنظمة قادمة من تجارب تاريخية ودستورية مختلفة إلى هذه العائلة «السلطوية الانتخابية». شبح السلطوية الانتخابية بات يطاول عددا من الديمقراطيات الغربية نفسها. أقله، عقدة الوصل بين مؤسسات دولة القانون غير المنتخبة (وفي طليعتها القضاء) وبين المؤسسات المنتخبة تتعرض لاختبارات قاسية. المجر حالة متقدمة لجهة تفاخر رئيس وزرائها بنمط «الديمقراطية اللا-ليبرالية» التي يعتمدها. لكن السلطوية الانتخابية لم تعد مجرد ملمح عرضي في النموذج الأمريكي للديمقراطية. ليس من السهل زج هذا النموذج ضمن إطار «السلطوية الانتخابية» ذي النكهة العالمثالثية، لكن لم يعد الأمر مستحيل التصور.
في الوقت نفسه، وضمن بوتقة الأنظمة «السلطوية الانتخابية» كما استعرضها كتاب ليفتسكي وواي يمكن القول إن روسيا التي عدها الكاتبان وقتذاك واحدة من هذه النماذج، تراجعت فيها الانتخابية الى حد قصوى، واستفحلت فيها السلطوية بشكلها الأشد فظاظة. هناك في المقابل، أندونيسيا، التي تتنافس سلطويتها مع التجربة الانتخابية الحافلة فيها، في مرحلة ما بعد سوهارتو. ويمكن توقع انقسام الرأي أين تصنف الهند الحالية. بالمقارنة، مع السلطويات الانتخابية، فهي تحظى بمؤسسات قضائية أكثر متانة. وفي الوقت نفسه مستوى الغلواء الاقصائية التي يمارسها الحزب القومي – الديني الحاكم فيها ضد غير الهندوس يعكس منحى ليس من الميسّر فهمه من خلال توليفة «السلطوية الانتخابية». لأن هذا النموذج بحد ذاته لا يلحظ حجم وكمية العنف المجتمعي الإثنو- إقصائي. مؤشر تحول نظم العالم أكثر فأكثر نحو «السلطوية الانتخابية» ليس هو نفسه مؤشر الانتقال من «الدولة – الأمة» إلى «الإثنوقراطية».
تركيا نموذج على «السلطوية الانتخابية» ببعديه هذين. انتخابات تعددية، بنسب مشاركة وحماسة عاليتين، بنسب فوز غير «كاسحة» إنما بشكل معطلة فيه لعبة التداول على السلطة، ومال أكثر فأكثر فيها النظام للتركز حول السلطة التنفيذية. الانقسام التركي، بين الأتراك الإثنيين أولا، هو انقسام سياسي – قيمي عميق. التأرجح بين سمة تركيا كدولة أمة وبين سمتها كإثنوقراطية قوي أيضاً. كان يجري تدبر هذا النوع من الانقسامات بالعسكرة الانقلابية فيما مضى. لكنه، منذ جرى إبعاد كأس العسكرة، لم يترافق تطوير التجربة الانتخابية وتكرارها مع بلورة لعبة مؤسساتية مريحة تتيح التداول على السلطة. رجب طيب أردوغان كان له باع في نزع العسكرة، لكن هذا شيء، وتطوير التجربة في اتجاه اعتماد التداول الممأسس على السلطة شيء آخر. وبعد أن كان «العدالة والتنمية» يظهر النية على الانتقال من «الإثنوقراطية» إلى الدولة الأمة المستوعبة للأكراد، بات خوف هذا الحزب أكبر من آفاق التحالفات بين الأتراك «العلمانيين» وبين المزاج الكردي الأكثري، بخاصة في ظل الروحية الأوجلانية الجديدة. اعتقال أكرم أمام أوغلو والأزمة الحالية منعطف حرج لمعرفة كيف ستكمل تركيا خط التوفيق بين البعدين، المتشابكين، السلطوي والانتخابي – التعددي، لتجربتها «ما بعد العسكريتارية». صحيح أن مفهوم «السلطوية الانتخابية» لا يفقه إلا كسلسلة نظم ليس من الضرورة الافتراض فيها انها تحضيرية للانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية، أو بالعكس، بل كأنظمة مرشحة لأن تكون مزمنة، لكن «الخلطة» بين ما هو سلطوي وبين ما هو تعددية وصناديق فيها، هي خلطة متبدلة، متوترة. يبقى أنه فقط روسيا التي خرجت من «السلطوية الانتخابية» في اتجاه السلطوية «البحت».
والبلدان العربية التي شهدت انتفاضات شعبية؟ هنا أيضا ربما جاز القول بأن «السلطويات الانتخابية» هي تلك الموجودة في تجارب سابقة، بسياقات مختلفة على زلزال 2011، أي لبنان والعراق والمغرب. في المقابل، «السلطويات الانتخابية» بنت الربيع، امتص طابعها السلطوي بعدها الانتخابي لأبعد حد. وإن يكن على يد رئيس منتخب باقتراع تعددي تنافسي، كحال تونس. المفارقة، أن «شهوة» التحول إلى «نظام رئاسي» يتشارك بها الحكم في تونس وفي الشام اليوم بشكلين مختلفين. فشل مجتمعات الربيع العربي في التحول حتى إلى أنظمة «سلطوية انتخابية» ليس بمعطى دستوري سياسي فقط. هو مؤشر إلى تلف أكبر في بنى هذه المجتمعات. ليس قليلا أنه، حتى زرع «السلطوية الانتخابية» لم ينجح، بخاصة في البلدان التي شهدت «ثورات».
كاتب من لبنان