ترامب كشهوة عالمية: زمن اليساروفوبيا

 وسام سعادة

يحتاج اليمين الشعبوي في غير مكان من العالم إلى عدوّ لا يجده، يسمّيه اليسار.
يحتاج في الوقت نفسه لقول الشيء ونقيضه. أنه لم يعد هناك يسار في العالم. وأن معدومية اليسار هذه تزيده خطورة، وقدرة على تسميم كل المسائل.
ما يطرحه هذا اليمين هو أن الماركسية وقد كسدت، وخاب أملها في بناء مجتمع نقيض للرأسمالية، فإنها مع ذلك مهدت السبيل لظهور ما هو أكثر شناعة منها، وهو ما يسميه متوترو اليمين «الماركسية الثقافية».
وهذه يتهمون كل من يخالفهم الرأي أو لا يعجبهم شكله بها. فهنا يلحق أتباع الترويحة «ما بعد الكولونيالية» بهذه الماركسية «الثقافية»، مع أنه هؤلاء لم يتعبوا ولم يكلوا في وصم كارل ماركس بمماشاة العقل الأورو ـ مركزي والاستخفاف بشعوب المستعمرات، إن لم يكن بالتواطؤ مع الاستعمار الأوروبي واعتباره ضرورة تاريخية لكسر حلقة الركود المستدام في أنماط الاستبداد الشرقي. وهناك من يلحق أنصار الليبرالية بالماركسية الثقافية. باعتبارهم يستخفون بالقيم المحافظة ويفتتون الروابط الاجتماعية.
نظام فيكتور أوربان في المجر يتبجح بأنه يقيم «ديمقراطية خالية من الليبرالية». وفي عرفه أن الليبرالية هذه مطية «الماركسية الثقافية». بل هو يحمل على مبدأ استقلالية القضاء دون لبس، بدعوى أن استقلالية مؤسسة غير منتخبة فيه نيل من الإرادة المعبر عنها في صندوق الاقتراع. ويرفض في الوقت نفسه أن تكون للأحزاب المتنافسة الظروف المتعادلة لخوض الانتخابات، بدعوى أن الممسوس منها بشبهة «ماركسية ثقافية» ينبغي، ولو سمح له بالمشاركة، أن تجيّش ضده كل أدوات النبذ وقد سخّرها لحسابه من في السلطة.
في الولايات المتحدة الأمريكية، يشعرك دونالد ترامب وربعه كما لو أن كمالا هاريس أو باراك أوباما أعضاء في تنظيم ماركسي لينيني. وفي لبنان تبلغ الهلوسة حد التحريض في الصباح والمساء على جورج سوروس كما لو أنه فلاديمير إيليتش لينين هذا العصر، الذي يتحين الفرصة للانقضاض على قصر الشتاء، ويخبئ شعار «كل السلطة للسوفييتات» بالسم المعسول لشعارات حقوق الإنسان والمجتمع المفتوح والمحاسبة.
أما في الهند، فإن الحزب القومي الديني الهندوسي الحاكم يشنّع على حزب المؤتمر الذي تتربع على قمته سلالة آل نهرو غاندي، على أنه حزب «الماركسية الثقافية»، وترصد الخطط ضد جامعة جواهر لال نهرو في دلهي لتطهيرها من هذه الماركسية، هذا مع أن في الهند تراثات شيوعية جماهيرية عديدة، إلا أن المقصود الأول بمطاردة الماركسية الثقافية هو تراث جواهر لال نهرو وابنته انديرا غاندي، ودائماً تحت شعار أن نهرو وابنته أقاما سلالة، تعيش حياة متفرنجة بعيدة تماما عن الشعب، فيما تخدر من حولها بالاستناد إلى أفكار وكليشيهات «ماركسية المصدر». لقد تحولت «الماركسية الثقافية» إلى غول كبير.

يؤلف اليمين يساراً في رأسه. هذا بعد عقود طويلة على اندثار الحركة الشيوعية الأوروبية، وتحول الاشتراكية الديمقراطية إلى نسخة اجتماعية عن النيوليبرالية، هذا في أحسن الأحوال.
يؤلف اليمين يساراً، فيما اليسار الذي يهلوس بصدده هذا اليمين لم يعد يسارياً، أو يكاد. فقد أعفى نفسه من هدفية إعادة توزيع الثروة، ولا نمط حياة جديد على كوكب الأرض يصبو إليه. الأدهى أن بعض اليمين يستعير النقمة التي عادة ما تأتي من داخل اليسار، على اليسار ككل، أنه تخلى عن الطبقة العاملة. اليمين الشعبوي «حقاني»: يخاف على الرأسمالية من اليسار، ويستنكر كيف أن اليسار تخلى عن البروليتاريا، وانصرف للدفاع عن الأقليات الجنسية.
كثير من هذا اليسار، أو ممن يزجهم اليمين الشعبوي ضمنه عنوة، يضارع اليمين نفسه في سياسات الهوية، كما في اختزال كل أمر الى واحد من اثنتين: المقاربة الأخلاقوية، والمقاربة التكنوقراطية. أو يمضي قدماً في مجافاة المادية، ويساجل في الليل والنهار ضد فكرة التقدم، هذا بعد أن يكون قد سخّف هذه الفكرة وقزّمها على نحو كاريكاتيري. فالتقدمية من حيث هي انهمام بالربط بين التراكم في مجال المعارف وبين التراكم في مجال تحسين نوع الحياة والارتفاع بها شأناً لا يشطبه مجرد تهافت القول بأن هذا الترابط حتمي وغائي من تلقائه. التقدم من حيث أنه يفترض بالبشر التعلم من تجاربهم والاستفادة منها وهم ينظرون إلى المستقبل، ليس هو نفسه التقدم وقد اعتمد صنماً يجري استعداء الطبيعة والظفر عليها في ختام صراع ضار متخيل معها. التقدم من حيث هو التنبيه دائما على أهمية إشاعة الوعي العلمي ليس هو نفسه التقدم «المؤمن» بأن التكنولوجيا هي الحل لكل المشكلات. يسع مفهوم التقدم أن يعاد تشكله بمضمون إيكولوجي، وأكثر تشرباً للتنوع الحيوي كما للتعدد بين البشر. يسعه أن يكون نسبياً، وأن يتقبل أن هناك حقبات من التاريخ يمكن أن تشهد نكوصاً أو ركوداً، وأن ايقاع التطور هو على أية حال مختلف بين الأقاليم والأزمان. كل هذا لا يشطب مفهوم التقدم. بل يغنيه ويقويه. المفارقة أن اليسار تعسف في هذا الشطب، فواخذه اليمين مرتين. مرة لأن اليسار تخلى عن مفهوم التقدم، أو أخذ «يستحلي» الحركات الرجعية، و«يتقاطع» معها، ومرة لأن هذا اليسار ما زال مصراً على مفهوم التقدم، ولم يفهم بعد أن الحرب الباردة لم تحسم فقط ضد الشيوعية السوفياتية، بل عنت تصفية الحساب مع إرث التنوير كله. في باريس المحتلة، قدم الوزير والإيديولوجي النازي الفرد روزنبرغ ليعطي محاضرة تحت عنوان تصفية الحساب مع جان جاك روسو. بعض اليمين ما زال هناك!
«رهاب اليسار» واحدة من تقليعات هذا الزمن، العابرة للقارات والمساحات. هذا في وقت، الرأسمالية نفسها تجد نفسها في حلّ من مبدأ «حرية التجارة». وهو ما يعود في جزء أساسي منه إلى أن الصين دخلت العولمة من باب حرية التجارة هذه، بقيادة شركة توجيهية مقاولاتية استثمارية ضخمة هي «الحزب الشيوعي الصيني». مئة مليون عضو لا نعلم إن كان يمين الهلوسة يحتسبهم في اليسار جنباً إلى جنب مع جورج سوروس. الطريف أن اليمين نفسه ما كان يرى – إلى سنوات ماضية – في «فيلق آزوف» النازي الجديد الأوكراني سوى طليعة حرية، فيما هو اليوم آخذ في احتساب فلوديمير زيلينسكي على «الفوعة اليسارية»، وآخذ في التمثل أكثر فأكثر مع فلاديمير بوتين، بل أن «حب بوتين» غدا مؤشراً لنقاوة اليميني – الشعبوي في أيامنا هذه، وليس أبداً إلى أي حد ينتمي هذا اليميني لتراث اليمين المحافظ – التاريخي.
أمضى اليمين مرحلة الحرب الباردة وهو يركز على قطع صلة نسب الماركسية بالديمقراطية، وأخذ بعدها يشنع على الديمقراطية نفسها بوصفها وعاء لازدهار الشبهات «الماركسية الثقافية». العنصر «التماسكي» في كل هذه الهلوسة أن هذا اليمين يسعى في كل بلد لإظهار أنه يمثل «كتلة الناس الأكثر حقيقية» ضد الخاملين من تحت، والخاملين من فوق. من تحت، هم المهاجرون المكسيكيون في عرف ترامب، لكنهم أيضا مرضى السكري الذين اتهمهم أوربان بأنهم يرهقون كاهل الخزينة المجرية لأنهم يكثرون من التهام الحلوى! والخاملون من فوق هم الأنتلجنتسيا غير الموافقة لهذا اليمين المتطرف، أيا يكن مذهبها، ماركسية أو ليبرالية، مناهضة للإسلاموية أو على العكس محابية لها.
مسعى اليمين الشعبوي في كل بلد هو إظهار أن الصراع الحيوي هي بين «معشر الانتاج» الحقيقي، «المجتمع المفيد»، وبين الخاملين من المهمشين، ومن النخب ذي الحظوة على حد سواء. يتهم المهمشين والنخب بالتواطؤ مع بعضهم البعض، ويتهمهم بأنهم يعيشون عيشة مختلفة عن بعضهم البعض.

كاتب من لبنان

نقلا عن القدس العربي

أحد, 06/04/2025 - 16:18