في ساحة جامع الفنا، في رحاب حدائق فندق "المامونية" التاريخي، الذي يحفظ جزءا من ذاكرة وينستن تشرشل، وعلى السجاد الأحمر للنجوم، تواصل مدينة مراكش ترصيع سجل ضيوفها وسفرائها إلى العالم بصور مشاهير السينما الذين يستقبلهم المهرجان الدولي للفيلم. تلك الصور التي تتعانق لترسم بطاقة سفر إلى مكان سحر وحلم مفرد اسمه: مراكش.
القصة ليست حديثة تماما. فمبكرا، عرفت مكمن تميزها، وراهنت على قدر يتصل بالغرباء القادمين من بعيد، هذه المدينة التي تمد أطرافها تحت شمس لا تحتجب إلا لماما، في واحات نخيل تفسح المجال للعبة متاهة، وعلى مدى البصر جبال أطلسية تلبس معطفها الثلجي شتاء.
تنوع طبيعي مدهش وفسيفساء عرقية اجتماعية تلاقحت فيها مختلف العناصر العربية والأمازيغية والصحراوية، ثم الأوروبية في المرحلة الاستعمارية، وذاكرة تاريخية عريقة.
تلك عناصر اندمجت في رؤية سعت إلى وضع المدينة في قلب خريطة المدن الكونية المفتوحة التي تؤسس جاذبيتها على سحر مكان ولغز هوية وأسطورة حية تتملك كل وافد فيسافر بها ويروج لها.
لم يكن رئيس الوزراء البريطاني تشرشل يحسب، وهو يكتشف مراكش في ثلاثينيات القرن الماضي من أجل أيام نقاهة، أنها ستصبح المدينة "العشيقة" التي ظل يتردد عليها طيلة حياته، وفي فندقها الفخم "المامونية" دوّن مذكراته، ورسم أشهر لوحاته التي حملت إحداها اسمها.
هي الغواية ذاتها التي استبدت بعميد الموضة العالمية إيف سان لوران حين تلبسه ضوء المكان وألهمته ألوانه الحارة، فاستقر بالمدينة ذات المعمار الأرجواني الخاص، وأهداها متحفا يحمل اسمه، كما رمم حديقة فريدة باتت من أهم روافد الجذب السياحي، باسم التشكيلي الفرنسي "ماجوريل" الذي حلّ بمراكش عام 1919 ووجد فيها مصدر إلهامه.
تتعدد مراكز ثقل المدينة، التي تحمل كل منها بصمات العابرين من أعلام التاريخ القديم والحديث، غير أن ساحة جامع الفنا تظل العصب الحيوي الذي يجسم تجربة حضارية وإنسانية موغلة في التنوع والذاكرة.
هي أقدم الساحات المفتوحة في العالم، وصنفتها اليونيسكو تراثا عالميا لا ماديا. اعتراف كوني رمزي تدين فيه المدينة إلى زائر استثنائي أصبح ابنا شرعيا لها، حتى وافته المنية على ترابها، إنه الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو، الذي جاء ليتنفس هواء بعيدا عن غرب مادي بلا روح، فانتخبها موطنا أصيلا له، وأطلق دينامية دولية أثمرت إعادة الحياة لساحة يتوارثها الحكواتيون والموسيقيون والبهلوانيون ومروضو الأفاعي.. وحتى الضائعون والمهمشون والمشعوذون.
الساحة التي شكلت فضاء لأفلام عربية ودولية، تواصل السفر إلى أقصى البقاع بصور النجوم، ولن يكون آخرها روبرت دي نيرو الذي حلّ على منصة المهرجان السينمائي في لقاء مع حشود المراكشيين والزوار. فعل ذلك قبله ليوناردو دي كابريو، ومونيكا بيلوتشي وشاروخان وأميتاب باشان وعادل إمام ويسرا.. هكذا يساهم المهرجان في تغذية "كاتالوغ" المدينة بوجوه من فئة "كبار الشخصيات" (VIP).
ومع الصور تسافر ثقافة بلد بأكمله. في تصاميم القفطان واللباس التقليدي المغربي الذي تتألق فيه على سجاد المهرجان نجمات ونجوم من مختلف الأصقاع، في نقوش الحناء على الأكف، تنشرها ممثلات على صفحات التواصل الاجتماعي، في قلائد وأساور عتيقة الطراز، يتقاسمنها مع المعجبين والمعجبات، على مائدة طعام يتصدرها طبق الكسكس، عند باب خشبي يستند إليه ممثل هوليودي أو تحت سقف مزخرف يتطلع إليه نجم بوليودي، يولد شغف لدى زوار محتملين يتحينون فرصة الاكتشاف.
تعرف المدينة كيف تصنع الدهشة وتخلق الالتباس فيعود الزائر ويدعو إليها. يبدو النجم الهوليودي ويلي سميث مع عائلته في حضن مجموعة لموسيقى كناوة الشعبية ذات الأصول الزنجية، تجرب المغنية شاكيرا غطاء رأس في محل بالسوق القديم، يتقاسم اللاعب ديفد بيكام مع عشاقه لحظة عيد ميلاد داخل بيت مغربي عتيق، وتتزين أيقونة البوب مادونا بمجوهرات أمازيغية الطراز وهي تخلد عامها الستين. كلها صور وألبومات تجعل من "مراكش" علامة محلية الصنع عالمية الأفق.
لم تسلم مراكش من حوادث سير نغصت عليها نشوة اللقاء مع العالم. من العمليات الإرهابية التي استهدفت فندقا عام 1994 إلى الهجوم على مقهى "أركانة" الشهير في القلب النابض لحركة السياحة عام 2011، اهتزت الأرض، لكن قصة الحب صمدت، وثقافة الاستقبال والانفتاح على الأقاصي بددت الخوف الطارئ.
كثير منهم تحول من عابر إلى مقيم. فمنذ سنوات طويلة، تسجل مراكش إقبالا شديدا من قبل مشاهير العالم على اقتناء البيوت القديمة (الرياضات) التي يعاد ترميمها وتصميمها وفق أذواق ونزوات تنفق بلا حساب.
في أوساط النخبة الفرنسية، السياسية والاقتصادية والفنية والإعلامية والرياضية، أصبحت مراكش عاصمة القصور الفاخرة التي تستعيد لياليها مخيال الشرق. من أعلامها زين الدين زيدان ونيكولا ساركوزي ودومينيك ستروس كان وألان ديلون.. وقائمة تطول.
إنه سحر مكان تنشطه دبلوماسية الفن والثقافة، وسياسة عمومية لتكريس المدينة الحمراء قبلة للمؤتمرات الدولية الكبرى من اتفاقية منظمة التجارة العالمية إلى قمة التغير المناخي (كوب 22)، ضمن وعي بأهمية الصناعة الإبداعية والسياحة الثقافية في ترويج صورة البلد.
لكنْ ثمة خاسرون كثر في المعركة. الفضاء الذي يفتح ذراعه للنجوم والمشاهير يضيق على البسطاء من أهله، ممن لا يقدرون على مجاراة الحياة في سوق عمراني باهظ التكلفة وشديد الضغط، وعلى البيوت المتواضعة التي لا يقاوم أهلها عروض الشراء الأجنبية التي يحملها الوسطاء، فينزاحون إلى الضواحي في تجمعات سكنية يواجهون داخلها واقعا قائما بدل مراودة عوالم الحلم والسحر المستحيلة في مكان معولم بامتياز.
المصدر : الجزيرة