أعادت قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكسيت) قضية جبل طارق للأضواء؛ فالمنطقة البريطانية منذ ثلاثة قرون تريد أن تظل بريطانية وأوروبية في الوقت ذاته، بينما هددت إسبانيا بأنها ستعرقل المصادقة على مشروع الاتفاق حول بريكسيت في حال لم يضمن لمدريد حق النقض حول مصير جبل طارق.
وتشتهر هذه القطعة الصخرية، الملحق بها ساحل صغير مساحتهما 6.7 كيلومترات مربعة، بأنها موطن للقرود، وثالث بلد من حيث إجمالي ناتج الفرد في العالم، وأضاف لها موقعها على الطرف الجنوبي من شبه جزيرة إيبيرياميزات فريدة، لكن هذا الجبل الصخري المتنازع عليه ظل إشكالية في التاريخ والجغرافيا.
فتاريخياً هي حلقة صراع أندلسي إسباني، وجغرافياً هي نقطة انفصال القارة الأوروبية عن شمال أفريقيا، وهي حالياً موضع نزاع طويل بين بريطانيا وإسبانيا.
شعب بريطاني على أرض إيبيرية
يفخر شعب جبل طارق بأنهم بريطانيون ولا يزالون يبدون ولاء قويًا للتاج والمملكة المتحدة. ومع ذلك، فإن هوية جبل طارق استندت منذ وقت طويل إلى دعامتين، هما: الأمنان الاقتصادي والسياسي، لكن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يهدد كلتا الركيزتين.
هذا الاختلاف في المصالح هو إحدى القضايا التي تسبب الهزات في الجبل؛ فبريطانيا لن تصبح في الاتحاد الأوروبي للدفاع عن جبل طارق ضد النفوذ الإسباني.
واضطرت إسبانيا إلى الاعتراف بجبل طارق البريطاني (وفتح الحدود مع إسبانيا بعد أن أغلقت عام 1969) عندما انضمت إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية في عام 1986.
لكن بريكسيت قلب هذا الوضع رأساً على عقب، ويبدو من المرجح أن تستخدم إسبانيا موقفها لزيادة نفوذها على جبل طارق، الذي قد يبحث بدوره عن علاقة أكثر براغماتية مع جارته الكبيرة، ويتخلى عن بعض المشاعر الوطنية البريطانية التي طالما أبدى تمسكه بها.
تاريخ عربي طويل في الجبل والقلعة
في العصور القديمة، كان جبل طارق مكانا ذا أهمية دينية ورمزية؛ فالفينيقيون أتوا من شرق المتوسط واستوطنوه لقرون منذ ما يقارب ألف عام قبل الميلاد، وجاء بعدهم الإغريق والرومان من شرق أوروبا، واعتبرت الأسطورة أن بطل الميثولوجيا الإغريقية هرقل هو من قام بشق المضيق بين القارتين الأوروبية والأفريقية.
وبعد انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية، وقعت المنطقة تحت سيطرة الفاندال أو القبائل الجرمانية الشرقية التي أتت من بولندا وعبرت لشمال أفريقيا في القرن الخامس الميلادي.
ولاحقاً شكل الجبل جزءًا من مملكة القوط الغربية، وحمل جبل طارق اسمه الحالي بعدما عبره القائد الإسلامي طارق بن زياد عام 92 للهجرة مبعوثا من موسى بن نصير لفتح الأندلس، وقائدا لجيش يبلغ عدده 12 ألف مقاتل.
احتفظ المسلمون بجبل طارق لنحو ستة قرون، واستولى عليه الإسبان عام 1309، ثم استرجعه المسلمون عام 1333، واستولى عليه الإسبان من جديد عام 1462 إلى غاية 1704، حيث استولت عليه بريطانيا ووقّعت مع الإسبان معاهدة "أوترخت" عام 1713 التي تقضي بإعادته إليهم إذا قررت التخلي عنه.
وفي عام 1160، أمر السلطان عبد المؤمن مؤسس دولة الموحدين وحاكم شمال أفريقيا والأندلس ببناء مستوطنة دائمة في المنطقة، وشيّد قلعة وسميت المنطقة بمدينة الفتح، ولا يزال برج "القلعة الحرة" باقياً حتى اليوم في جبل طارق معلماً من معالم الأندلس العربية، ويمكن مشاهدته من كل أنحاء جبل طارق.
بنى طارق بن زياد قلعة صغيرة، وأعاد بناءها سلطان الموحدين لتطل على المضيق الإستراتيجي وتحمي "مدينة الفتح"، وبعد أن قضى بنو مرين على دولة الموحدين واصلوا تعمير القلعة والعناية بها.
وخاضت مملكة قشتالة الإسبانية معارك في القرنين 13 و14 مع مملكة غرناطة الأندلسية للسيطرة على مضيق جبل طارق ومحيطه، وتبادلت المملكتان السيادة على الجبل في غضون هذه المعارك.
هوية جبل طارق المتنازع عليها
لا يبدو واقع جبل طارق بعيداً عن تاريخها، إذ حل النزاع بين بلدين من بلدان الناتو محل الصراع القديم بين عرب الأندلس وملوك إسبانيا.
فطوال قرون ظلت المملكة المتحدة وإسبانيا على خلاف حول السيادة على "جبل طارق".
يتراوح عدد سكان جبل طارق بين ثلاثين وأربعين ألف نسمة، معظمهم من أصول بريطانية وإيطالية ومالطية وبرتغالية ومغربية وإسبانية، ويعمل أغلبهم في الجيش البريطاني، ويدين معظمهم بالمسيحية، ويتبعون الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وتوجد أقلية مسلمة.
كيف أصبحت مدينة إسبانية أرضاً بريطانية؟
استولى الأسطول الأنجلو-هولندي على جبل طارق في أعقاب حرب الخلافة الإسبانية في أوائل القرن 19، وقامت إسبانيا بتسليم المنطقة رسمياً عام 1713 بموجب معاهدة أوتريخت. ووفقاً لهذه المعاهدة -التي لا تزال سارية المفعول- سلمت إسبانيا مدينة ومرفأ جبل طارق، لتأمين انسحاب بريطانيا من الحرب التي خاضتها مع هولندا والنمسا ضد إسبانيا، وسمح لسكان المنطقة بالنزوح عنها بسلام.
وأصبح جبل طارق قاعدة أساسية للبحرية الملكية، ولعب دورا مهما قبل معركة طرف الغار (1805)، وخلال حربالقرم منتصف القرن 19، بسبب موقعها الإستراتيجي.
ولكن، رغم أن المعاهدة دقيقة للغاية بشأن ما تم التنازل عنه ، فيبدو أنها أصبحت مفتوحة على تفسيرين مختلفين للغاية.
حول المدينة.. الصراع على الجبل والمياه
وحتى يومنا هذا، تعتقد الحكومة الإسبانية أنها لم تتنازل إلا عما ورد ذكره صراحة في المعاهدة، أي مدينة جبل طارق، ولا شيء آخر. وبعبارة أخرى، فإن الجبل المحيط بالمدينة على جبل طارق لم يتم التنازل عنه أبداً إلى المملكة المتحدة، ولا المياه المحيطة بالصخر أو المضيق، أي شريط الأرض الذي يربطها بالبر الرئيسي لإسبانيا.
لكن الحكومة البريطانية تصر على أن جبل طارق يمتلك مياها إقليمية. والسبب الوحيد في عدم النص عليها في المعاهدة هو أن المياه لم يتم ذكرها أو تنظيمها بشكل صريح في معاهدات ذلك الزمن.
لم يتم التوفيق بين هذه التفسيرات غير المتوافقة. وعندما وقعت إسبانيا وصدقت على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982، قالت إنها لا تعتبر أن جبل طارق مشمول بأحكام الاتفاقية. وفي المقابل أصدرت المملكة المتحدة بيانا تؤكد فيه أن جبل طارق محاط بثلاثة أميال بحرية من المياه الإقليمية البريطانية.
الحدود والصيادون والمطار وقضايا أخرى عالقة
في بداية القرن العشرين، قامت المملكة المتحدة من جانب واحد بإنشاء سياج حدودي مع البر الرئيسي لإسبانيا، لكن الأمم المتحدة أعلنت عام 1964 أن جبل طارق إقليم غير متمتع بالحكم الذاتي ويجب إنهاء الاستعمار. لكن المفاوضات بين بريطانيا وإسبانيا وصلت لطريق مسدود.
ويعتبر مطار جبل طارق قضية عالقة أخرى؛ كونه يقع في منطقة البرزخ المتنازع عليه، ورغم موافقة البلدين على السيادة المشتركة على المطار، فإن المشاكل العالقة بخصوصه لم تحل بعد.
وقبل خمس سنوات تصاعدت التوترات مرة أخرى عندما قررت حكومة جبل طارق في يوليو/تموز 2013 إلقاء كتل إسمنتية في المياه لتكوين شعاب مرجانية اصطناعية، واعتبر الصيادون الإسبان أنه حكومة جبل طارق تحاول منعهم من الصيد في المياه بهذه الحيلة.
ورداً على ذلك، زادت الحكومة الإسبانية القيود على الحدود، وبدأت تعرب عن قلقها بشأن تهريب السجائر من جبل طارق (حيث تكون أرخص) إلى إسبانيا. كان هناك أيضا حديث عن التهرب الضريبي، مع الشركات العاملة من جبل طارق، ولكن تقوم بأعمال تجارية في إسبانيا.
وفي عام 2014 جرى استفتاء على استقلال أسكتلندا عن بريطانيا، وأثار ذلك حرجاً لدى إسبانيا، إذ لديها قضية كتالونيا الشائكة التي طالما طلبت تنظيم استفتاء مشابه، لكن حكومة مدريد ترفض بشدة.
وأضاف بريكسيت فصلاً جديدًا لهذا التاريخ الشائك؛ فهناك توترات حول ما إذا كان ينبغي السماح لجبل طارق بالدخول للسوق الموحدة خلال الفترة الانتقالية قبل تطبيق بريكسيت أم لا.
المصدر : الجزيرة