أزداد يوما بعد يوم يقينا بأن استقالة الرئيس كانت خطوة متعجلة، تركت قنابل موقوتة كالمطالبة بالتخلص من الباءات الثلاثة، بن صالح (عبد القادر) وبلعيز (الطيب) وبدوي (نور الدين) أي رؤساء مجلس الأمة والمجلس الدستوري والوزير الأول، في انتظار باءات أخرى، وربما يستعد البعض إثر النجاح لرفع حروف جديدة، ربما “قافٌ” أو “صادٌ”، وكل ذلك تحت غطاء شعار خفيف بسيط طريف وسهل غير ممتنع ألقي في وسط الجماهير، كقطعة خبز في سنارة الحوّات، شعار يقول “يروحو قعْ” ، أي (فليرحلوا جميعا)، والمقصود بذلك رحيل كل من يرتبط من قريب أو من بعيد بالنظام القديم (لم يُسمّ بعدُ بالنظام البائد).
ومن الطريف أن رفيقا كان يحدثني بحماس كبير عن ضرورة التخلص من البرلمان المُزوّر الذي لا يمثل الشعب والذي يجب أن تعتبر كل قراراته باطلة، وعندما سألته عمّا إذا كان علينا أن نعتبر قرار ترسيم اللغة الأمازيغية قرارا باطلا لا يلزمنا في شيئ، غضِب وتركني مزمجرا بدون أن يلتفت وراءه.
وأسارع بوضع أوراقي كلها على المائدة لأنني لا أؤمن باللف والدوران في قضايا الوطن، ومن هنا أقول إنني ضد ذلك الشعار الشعبوي الخادع طولا وعرضا، وأعتبره أخطر القنابل الموقوتة التي يعلم الله وحده قوة انفجارها وحجم الخسائر التي قد تنتج عنه.
فليس سرا أن انفجار بركان الغضب كان متوقعا، بدون تحديد زمان أو مكان، وقد كنا جميعا وفي كل المستويات نتابع بكل قلق وضعية الرداءة التي وصلنا إليها، ونرى الساحة تتشبع أكثر فأكثر بالسوائل والغازات سريعة الالتهاب، من جراء ما أصبح مضغة الأفواه من تراكم الثروات الحرام والنزيف الذي يصيب خزانة الدول والانهيار الذي يعرفه أكثر من قطاع، وبالخصوص قطاع التعليم، وتفتت الرأي العام نتيجة لعشرات الأجهزة الإعلامية التي راحت تتوالد كالأرانب والقطط.
وكان الإحساس السائد هو أن “ربّ البيت” عاجز حتى أن يضرب الطبل، ومن هنا راح أهل البيت كل يرقص كما يشتهي وعلى الإيقاع الذي يريد.
ثم جاءت شرارة العهدة الخامسة التي أطلقت الأسد الجماهيري من قفص التحفظ والخوف من تكرار تجارب مأساوية.
ويحدث التسونامي الذي أدهش العالم، وخرج الشعب الجزائري، بشيبه وشبابه وبنسائه ورجاله، كما خرج في 1962 ينادي “سبع سنين بركات”، وكان خروجه صورة رائعة لأبناء “نوفمبر ومارس ويوليو”، وإلى درجة أدهشت المساهمين في الحراك الشعبي أنفسهم قبل أن تدهش الخصوم والأصدقاء.
لكنني لم أستطع التخلص من شعور بأن هناك في مكان ما من يعمل في إطار خلية تشبه “مخبر الأمم”، تتابع الأحداث وتسجل ردود الفعل اليومية عبر السنوات الماضية على كل المستويات، وكان دورها حماية “المافيا” الأوليغارشية والإدارة المتواطئة من يقظة الشعب، لكن حماقتها وتعاليه جعلها تتغول بحيث أصبحت لا تتحرج من تبادل القهقهات في جنازة تلاحق كاميرات التصوير صفوفها الأولى بكل اهتمام.
ومع انفدار فبراير راحت “المافيا” تتحرك للتحكم في الحراك، ولدرجة أن بعض عناصرها كانت من أكثر الأصوات ارتفاعا ومن أشد المشاركين تعبيرا عن الحماس.
وفي البداية راحت عناصر المعارضة المتكلسة تحاول الالتصاق بالتجمعات الشبانية، ولكنها طردت كقطط ضالة حاولت التسرب إلى موائد عرس دسمة، فانكفأت على نفسها وراحت تمارس الاستمناء السياسي لعلها تنجح في التموقع عن غير الطريق الشرعي، وهو إرادة الجماهير.
وفشلت الأصوات المبحوحة في استجداء المؤسسة العسكرية لتتعامل معها كبديل للشعب الغاضب أو كممثل له، وتطورت الأمور كما يعرف الجميع إلى أن توّجت في الثاني من أبريل بالاستقالة العصبية لرئيس الجمهورية، والتي حرص أن يكون فيها بالقندورة المنزلية، أي بدون اللباس الرسمي لأعلى المسؤولين رتبة في البلاد، وبدون وسام صدر مصف الاستحقاق الوطني الذي يجب أن يحمله رئيس الجمهورية على ردائه الرسمي، وكأنه أراد القول: أردتم خلعي، هاكم كل شيئ بما في ذلك وسامكم.
وكان ذلك إجراء متعجلا، لا أجرؤ أدبا على أن أستعمل معه عبارة أخرى.
ويتم الإعلان عن تطبيق المادة 102 من الدستور، ويتحمس لها من كانوا ضدها، غير أنهم لا ينسون كلمة (ولكن) وهكذا يفلسف قانونيون موقفهم بأنهم لم يكونوا ضد اقتراح المادة “ولكن” ضد العيب الشكلي (vice de forme) لأنه جاء على لسان رئيس أركان المؤسسة العسكرية، وكان يجب أن يبادر به المجلس الدستوري.
كانت الاستقالة متعجلة كما قلت، وكان منطق الدولة يفرض ألا يستقيل الرئيس إلا بعد أن يُعين حكومة جديدة تحظى بأكبر قدر ممكن من الترحيب الجماهيري، بدلا من حكومة ووجهت منذ اللحظات الأولى، عن حق أو عن مبالغة أو تجاوز، برفض واضح، تحمس له كل اتجاه لم يجد نفسه داخل التشكيلة الجديدة، فالبشر هم البشر في كل مكان.
وكان رئيس الجمهورية المستقيل يعرف، أو كان مستشاروه يعرفون، بأن عبد القادر بن صالح يواجه بنفور كبير، وبمبررات حقيقية أو مفتعلة، وكان على المستقيل بالتالي أن يستكمل العدد الناقص من أعضاء الثلث الرئاسي في مجلس الأمة، ليتيح للمجلس فرصة اختيار رئيس جديد يمكن ألا يلقي نفس الرفض.
وبهذا وذاك لا يضع المؤسسة العسكرية في موقف حرج، وهي الضامن الأول لانتقال السلطة في إطار الدستور، وبشكل سلس وهادئ.
لكن القنبلة الإنشطارية التي تركتها لنا الاستقالة المتعجلة بدأت في الانفجار، وكان العناد الذي ووجه به الحراك منذ 22 فبراير سببا وراء رفع سقف المطالب، التي كان وراءها حريصون على ذلك مستفيدون منه، ومن هنا وجدت مطالب ما بعد الاستقالة المتعجلة مبررات المزايدة.
ووُلِدَ شعار : فليرحلو جميعا (يتنحاوّ قع).
وليس سرا أن من ينادي برحيل الجميع يمكن وضعه في إطار ثلاثة مجموعات، أكثرها إخلاصا جموع الوطنيين والمواطنين الذين يرون في المسؤولين الثلاثة صورة الفساد الذي عرفت به السنوات الأخيرة.
وكان أقل المجموعات إخلاصا تجمعات حقودة تعمل على تصفية الحساب مع نظام الحكم في مرحلة استرجاع الاستقلال كلها، ومعهم من ينادي بإلغاء الدستور وعقد مجلس تأسيسي لوضع دستور جديد، أي أنه وضع بين قوسين جهد الرجال وإنجازات الوطن منذ 1962.
ولجأت عناصر نشطة، لها توجهاتها الخاصة، إلى نفس الأسلوب المتبع في ملاعب الكرة، حيث تتجاوب الجماهير مع الشعارات البسيطة والقصيرة فتروح ترددها، وربما بدون توقف عند دلالاتها الحقيقية أو نتائج المطالبة بها.
وهكذا انطلق شعار “الشرعية الشعبية” في محاولة لتجاوز نصوص الدستور، الذي اعتبِرَ، من كثرة تعديلاته، شيئا ككراسة التجارب المدرسية.
وتعديلات أي قانون هي أبغض الحلال، لكن علينا ألا ننسى أن الدستور الفرنسي أدخل عليه نحو 24 تعديلا منذ أكتوبر 1958، كما عُدّل الدستور الأمريكي 27 مرة ابتداء من عام 1791 وكان التعديل الأخير في مايو 1992.
وكان ممن تحالف مع المنادين برحيل الجميع اتجاه أكثر شراسة وأشد تضامنا ويضم كل الذين تناقضوا مع نظام الاستقلال، سواء من أقصى اليمين الديني أو أقصى اليسار اللائكي، ويشمل أصحاب النزعة البربرية من أنصار “جاك بينيت”، بل ومن بقايا الشرائح الاجتماعية التي لم يكن لها دور كبير في الثورة التحريرية، وهم الأكثر نشاطا وفعالية بين كل المجموعات، وتمكنوا من انتزاع وجود شديد الفعالية عبر قنوات التلفزة المحلية والأجنبية.
وبالطبع، هناك الأحزاب التي لفظتها الجماهير، ولأن معظمها، وباستثناء حالتين أو ثلاثة، ليست أكثر من نوادٍ سياسية قد تضم شخصيات متميزة لكنها لا تملك وجودا جماهيريا فاعلا، فقد راحت تتلاعب باستعمال أعرج للمادة 7 من الدستور، مع رفض المادة (8) التي تستكملها وتحدد أن الشعب يمارس سيادته عبر المؤسسات الدستورية.
ودعا هؤلاء في 23 مارس مؤسسة الجيش للاستجابة لمطالب الجماهير (التي لم تكلفها بشيئ) والمساعدة على تحقيقها (المطالب) في إطار احترام “الشرعية الشعبية” وتطالب بتشكيل هيئة رئاسية مكونة من شخصيات وطنية مشهود لها بالمصداقية والنزاهة والكفاءة تتبنى مطالب الشعب (من يختارها) ويلتزم أعضاؤها بالامتناع عن الترشح أو الترشيح في الاستحقاقات القادمة اللاحقة (والمفهوم هنا أن المجتمعين “هم في الخدمة” ومستعدون لكي يتم تكليفهم بتلك المهمة النبيلة) وتتولى الهيئة الرئاسية ( أي هم) صلاحيات رئيس الدولة وتقوم (هيَ) بتعين حكومة كفاءة وطنية لتصريف الأعمال، وإنشاء هيئة وطنية مستقلة لتنظيم الانتخابات وتعديل قانون الانتخابات بما يضمن إجراءها بطريقة حرة ونزيهة.
ومع كل هذه البلاغيات التي برع فيها من فشل معظمهم طوال السنوات الماضية في إدارة بلدية صغيرة تفادى العباقرة اقتراح أسلوب عملي لتنظيم الحراك، حتى يتمكن من التعبير عن إرادة الجماهير بشكل منظم وفعال وشرعيّ، ولم يوجهوا الفئات التي يتكون منها الحراك (القضاة والمحامون والأساتذة والطلبة والأطباء الخ) لاختيار ممثلين عن كل فئة منهم، للتعبير عن إرادة الجماهير بشكل ديموقراطي منظم يضع الخط الفاصل بين تلك الإرادة وعواطف الحشود، التي يمكن أن تلهب الميادين بالحماس الصادق لكنها تعجز عن تحقيق الاتفاق حول المخرج العملي لأزمة من النوع الذي تعيشه الجزائر، في بحثها عن خريطة طريق هادئ نحو المستقبل.
وعندما أعلن رئيس الأركان ضرورة تطبيق المادة من الدستور102، والتي كانوا يطالبون بها، ركب القوم جن أزرق (ولست أدري لماذا يكون الجن دائما أزرق اللون) حيث لم يُعهد لهم بمقاليد الأمور، ومن هنا راحوا يتغنون بالشرعية “الشعبية” ويفسرون المادة (7) بما يرونه تحقيقا لأطماعهم، وعلى حساب احترام نص الدستور.
ونجد هنا سر شراسة المطالبة بتنحية الباءات الثلاثة، والتي تعمل لها بكل همة ونشاط كل الاتجاهات المتناقضة مع النظام السياسي الجزائري منذ استرجاع الاستقلال، يدعمهم في ذلك، وبشكل لا تخطئه أذن ولا عين، معظم قنوات التلفزة الخارجية والمحلية، بعضها انطلاقا من أجندة سياسية مبرمجة، وبعضها نتيجة الاعتماد على مراسلين مبتدئين تستطيع أن تتحكم في حركتهم الميدانية وأدائهم الإعلامي مجموعة منظمة من النشطاء المكلفين بمهمة إذكاء الحماس، والذين يتكاملون مع مجموعة أخرى تملأ الساحات بلافتات وشعارات معينة، يكفي أن نتذكر أن حجمها وإعدادها فنيا ليس مما يمكن أن يوفره شباب متحمس أو مواطنون يعبرون بوجودهم عن رفضهم لواقع سيئ، ولا يملكون ما يمكنهم من تمويل تغطيات هائلة كالتي تابعها الجميع.
وهنا بدأ هاجس غريب يقضّ مضجعي وأنا أتابع ما يحدث على الساحة منذ نحو شهرين، وعلى مشارف شهر رمضان.
وخلفية هذا الهاجس هو منطق قديم في تحليل الأزمات، مضمونه أنه إذا كانت هناك ثلاثة أسباب ممكنة لحدث معين فإن الحكمة تقضتي البحث عن سبب رابع، وبغض النظر عن ضعف إمكانية تأثيره الظاهرية، فمعظم النار من مستصغر الشرر.
والهاجس يُلخصه تساؤل بالغ البساطة، خلفيته وجود عنصر مؤامرة متكاملة الأركان تحاول أن تستثمر لمصلحتها أروع حراك شعبي عرفه الوطن العربي منذ سنوات طوال، وإحساس قوي بأن مخبر”لعبة الأمم” الذي سبق أن تحدثت عنه ليس خرافة من نوع حكايات “دراكيولا”، مصاص الدماء، ولأن هناك دورا للمال أحسّ بوجوده وأٍرى بصماته وإن لم أستطع فضح قنواته ووسائله، والأفواه تناقلت ضخ أموال من مصادر نفطية في بعض أرجاء الساحة الجزائرية.
والتساؤل: لماذا لا يكون إشعال نار المطالبة الشرسة برحيل الجميع والخروج عن نص الدستور عملية بالغة الخبث، تدفع نحوها عصابة من الفاسدين في الإدارة المدينة والحزبية والأمنية، وفي المصالح المالية على وجه التحديد، وأشير لها هنا بحرف (س) وهؤلاء يدركون بأن عودة الهدوء إلى الساحة هي في مصلحة حكومة تصريف الأعمال، الضعيفة بحكم الظروف التي تسلمت فيها المسؤولية والمستندة إلى الدعم القوي من مؤسسة الجيش الرافضة لأي تدخل مباشر في الحركية السياسية.
و(س) مذعورة من محاولة السلطة الحالية اكتساب ثقة الجماهير بالقيام بحملة تمشيط هائلة تسقط فيها رؤوس كانت تختبئ وراء الأسماء السياسية والمالية اللامعة، والتي بدأت مطاردتها منذ أيام، في حين لم يفكر أحد بعدُ في متابعة الموظفين والبنكيين والأمنيين الذين سهلوا لها طريق الفساد ونالوا منه نصيبا لا بأس به.
مجموعة (س) تحاول الآن استغلال عواطف الجماهير الملتهبة من أثر الجروح التي أصابتها طوال السنوات الأخيرة، نتيجة تصرفات القوى غير الدستورية، وتدعم (س) إعلاميا شرائحُ فاسدة تعمل للحصول على عذرية جديدة في الصفوف التي تلي الصف الأول المفضوح إعلاميا، وتوجهاتٌ سياسية وعقائدية معزولة جماهيريا تبحث عن التموقع في المرحلة الجديدة، ويصبّ هؤلاء جميعا الزيت على الحماس الجماهيري، برفع سقف المطالبات، وتكرار الشعارات التحريضية عبر شباب من المعروفين بخبرتهم في إثارة حماس الملاعب الرياضية، وممن لا يعرفون خبث أصحاب المال الفاسد ومقدرتهم على بكاء التماسيح، ومن خلال تشجيع مداخلات متلفزة من مواطنين بسطاء يعجبهم أن يراهم أبناؤهم متحدثين في الشاشة الصغيرة.
ويساهم عدم وجود متحدثين مؤهلين انتخابيا باسم الحراك الشعبي في تحويل الحماس الشعبي إلى هيجان جماهيري، يدفع بشكل أو بآخر نحو الصدام، الذي قد تشعل شرارته ليلا مجموعة معد،ة لذلك كما حدث في 1988، وربما في 1992.
وإذا صحّ هذا التصور فإن التجمع (س) المشار له، والذي أتصور أنه يرتبط بشكل أو بآخر مع مصالح مالية ومخابراتية خارجية، خائف من الموقف الحازم للمؤسسة العسكرية، ومن هنا فهم يزرعون الجو حولها بالشكوك، ويركزون الهجوم على قايد صالح، الذي يُجسّد اليوم إرادة المؤسسة.
والهدف الرئيسي هو أن تصل البلاد إلى وضعية من الارتباك العام والفوضى الشاملة وتفتت المسؤوليات، تسهل لمجموعة (س) فرصة التعتيم على كل ما ارتكب في حق الاقتصاد الوطني، سواء بديون لم تسدد أو بضرائب لم تدفع أو برشاوى انتزعت بكل أنواع الابتزاز، ناهيك عن مخالفات أخرى قد تصل إلى درجة الخيانة.
ومن هنا فإن كل تشجيع للخروج على نص الدستور وكل تشكيك في المؤسسة العسكرية وكل إهانة لجيل بأكمله، اجتهد وأصاب واجتهد وأخطأ، يجب أن يثير في النفوس كل الشكوك في مصادره وخلفياته وأهدافه، وبدون أن يعني هذا تطبيق مبدأ “عفا الله عمّا سلف”.
فالعفو حق للمولى عز وجل ولكن الحساب حق لكل مواطن.
والحساب يجب يتضاعف مع كل محاولة للهروب من الحساب.
راي اليوم