الجزائر: استفتاء المؤسسة العسكرية

محيي الدين عميمور

بدأت في النصف الثاني من الثمانينيات عملية كان ظاهرها تطورا عاديا لاحتياجات ومعالم المجتمع، بينما كان وراءها خلق قوة سياسية منافسة لحزب جبهة التحرير الوطني، الحزب الواحد آنذاك، منتهزة الترهل الذي بدأ يصيب الحزب نتيجة لسلسلة التصفيات التي تعرض لها ابتداء من نهاية العهدة الأولى للرئيس الشاذلي بن جديد.

وتجسدت العملية في تشجيع إقامة جمعيات متعددة الاهتمامات أريد لمجموعها أن يُشكل ما اصطلح على تسميته بالمجتمع المدني، وكان الغريب أن المهتم الأول بالقضية كان المدير العام للأمن الوطني، ربما انطلاقا من أن وزارة الداخلية هي المكلفة برعاية تلك الجمعيات.

وبدا أن تكوّن المجتمع المدني كان عملية مفتعلة لم تنشأ كتطور طبيعي لحركية المجتمع، ووصل الأمر إلى وضعية تثير السخرية، فقد تجاوز عدد الجمعيات الوطنية والمحلية نحو 100 ألف، تعيش على ميزانية تقدمها الدولة وتتجاوز 15 مليارا.

وأصبحت القضية ألقاب مملكة في غير موضعها، فقرأنا، كمثال، عن تكوين الجمعية الدولية للدراسات الإستراتيجية والمركز الأكاديمي العالمي للإعلام الإلكتروني، وهي تسميات لا أساس علمي لها، وتذكر بالألقاب التي أصبحنا نتابعها على شاشة التلفزة من أمثال المحلل الإستراتيجي والخبير الإعلامي والأخصائي الدولي وما إلى ذلك.

وبينما برزت نشاطات تثير الاحترام كنشاط جمعية الوئام في قالمة وجمعية أنغام الحياة في غرداية وجمعيات محلية تتكفل بذوي الاحتياجات الخاصة وأخرى لحماية المُستهلك وجمعيات لا أتذكر أسماءها الآن، كانت هناك صور تثير السخرية مثل جمعية المرأة الريفية التي لا وجود للفلاحات في قياداتها.

وأذكر حالة واجهتها شخصيا يوم اتصل بي العقيد رشيد عيسات ليوصيني خيرا بجمعية تهتم بالفنون التشكيلية، فاستقبلت مسؤولها ودعمت جهوده لإقامة معرض افتتحته بنفسي.

وبعد عدة أشهر اتصل بي نفس العقيد ليوصيني مرة أخرى بالجمعية المذكورة، وقلت له يومها بأنه ليس في حاجة لأي توصية لأن من بين التزاماتي دعم هذه الجمعيات.

ومرة أخرى استقبلت مسؤول الجمعية، وصُعقت عندما طلب مني دعم إقامة ندوة في ذكرى تشكيل الحزب الشيوعي الجزائري، وهو مجال خارج عن تخصص الجمعية، فأوصلته إلى باب الخروج، وربحت عداء اثنين.

ويقول عزمي بشارة في دراسة له عن الجمعيات بوجود “توزيع للنفوذ بين القوى الاجتماعية ذات التوجهات الأيديولوجية و السياسية المتباينة، إذ بينما تسيطر القوى الاجتماعية، المحسوبة تقليديا على اليسار والمسماة اليوم القوى العلمانية، على التنظيمات والمؤسسات العاملة في مجال حقوق الإنسان يتضاءل في هذه وجود القوى الاجتماعية ذات التوجه التقليدي و الديني المحافظ.

ونجد أن قوى المعسكر الأول تعاني مشكلة أساسية تتمثل في افتقادها في غالب الحالات إلى قاعدة اجتماعية واسعة وقوية، بينما تحظى القوى التقليدية بتنويعاتها (قوى اجتماعية تقليدية محافظة، تيار الإسلام السياسي، قوى دينية سلفية…) بقاعدة واسعة بخاصة في الأوساط الشعبية و وشرائح الطبقة الوسطى”.

وأخذ الأمر صورة وجود سياسي ضاغط في التسعينيات، ارتبطت به، بتعليمات أمنية مؤكدة، كل المنظمات الجماهيرية، وبرز ذلك في  الندوة الوطنية التي رفض عبد العزيز بو تفليقة التوجه لها عند المحاولة الأولى لتنصيبه رئيسا في منتصف التسعينيات.

واليوم، وبعد فشل التيارات اللائكية التي تتشدق بالديموقراطية في فرض توجهاتها اللادستورية بمحاولة التجلبب ببرنوس ديني، وبعد انعدام التأثير الفعلي للقبعة الثقافية التي لم تتمكن من تكوين أغلبية مؤثرة، وبعد فتور ردود الفعل على بيان منظمة المجاهدين، الذي لم يخرج ضمنيا عن البيانات السابقة، راحت تلك التيارات تبحث عن وجود مؤثر عبر جمعيات المجتمع المدني، يعطيها حق التقدم للسلطة كمُعبّر عن رأي الجماهير، متجاوزة الأهداف الرئيسية التي طُرحت عبر الوطن كله، ومحاولة، بالضجيج المألوف، إعطاء الشعور بأنها ممثل الحراك الشعبي.

وكانت المشاركة الجماهيرية قد بدأت تتراوح بين الفتور أو مجرد الوجود الفضولي لمتابعة ما يحدث، ومن هنا بدأت العناصر الغاضبة من رفض المؤسسة العسكرية الخروج عن نص الدستور وميكانيزماته في محاولة استيراد تجمعات شبانية مُجَيّشة من ولايات مجاورة للعاصمة لتضخيم تظاهرات عاصمية تحظى بالتركيز الإعلامي من قنوات التلفزة، والأجنبية على وجه الخصوص.

وأدركت السلطات خلفية ذلك، فقررت منع الحافلات المكتظة من دخول العاصمة، والتي عاشت في بداية العشرية،عبر حشود مستوردة، عمليات عنف تخريبية اضطرت العاصميين يومها لمواجهتها بعنف مضاد.

  وثارت ثائرة الأقليات النشطة، وراحت تندد باعتداء السلطات على المادة 55 من الدستور، التي تعطي للمواطن الجزائري الحق في حرية الحركة حيث شاء، وهي مغالطة، لأن المنع يتركز على يوم الجمعة المخصص للتظاهرات، بعد أن ثبتت نية الافتعال بل والاستفزاز.

والغريب أن الذين يتغنون بالمادة 55 أقروا منذ سنوات قانونا يعاقب من يُغادر البلاد في إطار ما يُسمّى بالهجرة غير الشرعية، وهو قانون غير شرعي تم إقراره استجابة لإرادة السلطات الأوربية.

والأكثر غرابة اليوم هو أن نفس هؤلاء يقولون بأن الوضعية الحالية هي وضعية استثنائية تبرر الخروج على نص الدستور، وهي ازدواجية واضحة في المواقف.

في نفس الإطار بدأت محاولات جديدة للالتفاف حول صلابة موقف السلطة تجاه محاولات افتعال ضغوط جماهيرية تنسب للحراك ما هو بريء منه، وعاد الحديث عن المجتمع المدني.

ويقول محمد التميمي في هذا الإطار: “طيلة ستين سنة ، كان شخصان يجتمعان ويؤسسان لشركة وهمية، ثم يستوليان بذلك على أموال بالملايير من الخزينة العامة .. كما كان شخصان يجتمعان للإعلان عن نقابة أو جمعية وهمية، يحققان من خلالهما مصالحهما ومصالح الدولة العميقة ، تلك الجمعيات والنقابات التي تأسست تحت عباءة الجنرال مدين ، والتي تسمي نفسها (مجتمعا مدنيا) بينما هي ( مجتمع مَدْيَني).”.

وتؤكد التطورات ما قاله، فاليوم يبدو الكثير من تلك المنظمات والجمعيات والنقابات التي كانت تحصل على التراخيص والدعم، مجرد أذرع للدولة العميقة ولرؤوس الفساد، يحشدونها لخدمة مصالحهم ومشاريعهم في الانتخابات وغيرها.

فقد تنادى القوم لاجتماع في مقر نقابة تعليمية هلل له البعض، وخرج بورقة طريق تكرر نفس الأسطوانة القديمة التي فشلت التوجهات اللادستورية في فرضها، حيث تتحدث عن مرحلة انتقالية تشرف عليها هيئة رئاسية (معينة لا منتخبة بالطبع) .. تتبنى فكرة “تشكيل حكومة كفاءات”.

وفهِم كثيرون أن الأوامر قد صدرت لقواعد الدولة العميقة بوجوب التحرك الحثيث لأن هذه الفرصة هي الأخيرة والمصيرية، حيث أنّ أسوأ ما يواجه مشروع الدولة العميقة اليوم هو أنه لا يستطيع الخروج من دائرته الضيقة، رغم محاولات فك الحصار عن نفسه ليظهر كأنه يمثل الشعب كله، بالانفتاح على شخصيات وجمعيات ونقابات وهيئات ولو كانت لا تنتمي عقائديا لتوجهاته.

ومن هنا جاء اليقين بأن الذين يساهمون في إنقاذ التيار الذي عاث في البلاد فسادا، ثقافيا وفكريا وسياسيا، والذين يلقون له حبل النجاة بعد أن حاصرته الأمواج من كل جهة، سيتحملون وزرا وعارا تاريخيا لن تمحوه الأيام، ومن بين هؤلاء من ينتسبون للتيار الإسلامي.

لكن ما حاول التيار اللا دستوري بناءه في أسابيع انهار في ساعات، لأن ما بنيَ على باطل يظل باطلا، وهكذا تتابع التصريحات الصادرة عن جمعيات خُدعت بعنوان الندوة التي عقدت في “الكنابسات”، تعلن تنصلها من البيان الصادر عنها.

وتنشر القيادة الوطنية الموحدة للاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية بيانا تعلن فيه براءتها من بيان ندوة المجتمع المدني، وتتلوها جمعية سواعد الإحسان الوطنية التي أعلنت براءتها من الندوة وبيانها ..وتليها الأكاديمية الوطنية لترقية المجتمع المدني.

وهنا نفهم الخلفيات الحقيقية لما قاله رئيس أركان المؤسسة العسكرية الأسبوع الماضي، عندما حذر من النوايا مبهمة الأھداف التي يسعى أصحابھا عن قصد إلى تجمید العمل بأحكام الدستور، ومؤكدا أن القول بأن سلطة الشعب ھي فوق الدستور وفوق الجمیع ھو حق أريد به باطل، وهو يُدخِل البلاد في نـفـق مظلم اسمه الفراغ الدستوري، في حين أن الدستور ھو حضن الشعب وحصنه المنیع وھو الجامع لمقومات شخصیته الوطنیة وثوابته الراسخة.

لكن هذا الخطاب تضمن نقطة أثارت الكثير من النقاش، وهي تنديد رئيس المؤسسة العسكرية برفع رايات غير العلم الوطني، انطلاقا من تعهده بحماية التحرك الجماهيري من أي استفزازات تقود إلى نتائج صدامية لا يمكن التحكم فيها.

وثارت ضجة مفتعلة وجدت الفرصة لتأليب توجهات ومناطق معينة على الفريق قايد صالح، بالادعاء أن الراية المرفوعة هي راية ثقافية، وكان الردّ البسيط الذي جسّدته تعليقات متعددة في مواقع التواصل الاجتماعي هو أن التحرك الجماهيري عمل سياسي، وليس تظاهرة ثقافية بأي حال من الأحوال، ناهيك عن أن الراية، التي كان واضحا أن هناك من قام بتمويل وإعداد كميات كبيرة منها وزعت على شبابٍ معظم عناصره ترحب بأن ترفع أي شيئ، تلك الراية صممها الصهيوني “جاك بينيت” في الستينيات، وهي الراية التي يرفعها اليوم أتباع حركة “الماك” (التي يرأسها فرحات مهني المدعوم من فرنسا ومن إسرائيل والداعي لانفصال منطقة القبائل عن الجزائر).

ولأن حديث الفريق كان على شكل برقيات مختصرة فقد راح المعلقون يحاولون تفسير تلك البرقيات، وخصوصا في مواقع التواصل الاجتماعي.

وهكذا قرأنا لمن يقول إنها كانت رسالة مشفرة إلى حركة الماك وإلى فرنسا بالخصوص، فقد وصف حركة الماك بالأقلية القليلة، ليُفهم أنه لا يقصد الأمازيغ الأحرار.

ورأى بعض الرفقاء بأن إشارة الفريق للراية جاءت في غير توقيتها، لكنني أرى العكس، وأتصور أن المؤسسة العسكرية أرادت أن تجريَ استفتاء شعبيا يُمكن على ضوء نتائجه معرفة حقيقة المشاعر الشعبية تجاه مواقف رئيس الأركان، وذلك بعد استفتاء آخر غير مباشر جاء في خطاب للفريق قايد صالح نادي فيه بجمهورية باديسية نوفمبرية، وتجاوب معه أغلبية المتظاهرين الذين رفع بعضهم لافتات تأييد رسم على بعضها صور لرائد النهضة الثقافية العربية، عبد الحميد بن باديس، بينما تصاعد تنديد الأقليات الفرانكو لائكية، وتجسد في مقال نشرته صحيفة بالفرنسية تحت عنوان “الباديسيون النوفمبريون هم زبائن النظام “.

وكان الحجم الهائل للأعلام الوطنية في الجمعة الثامنة عشر للحراك دليلا على أن الأغلبية الساحقة تؤيد المواقف الدستورية التي اتخذتها المؤسسة العسكرية، وأصبح على الأقلية اللا دستورية أن تبحث عن طريق آخر، وهو ما بدأ بشكوى وجهت للأمم المتحدة تتهم النظام الجزائري بالعنصرية، تعليقا على “استفتاء” الراية الذي أثبت فيه القطاع الأعم من الجمهور تجاوبه مع ما قاله قايد صالح، بينما تشنج ضده آخرون استقطبوا نفور الكثيرين، وتزايد هذا النفور بأمر لم يكن في الحسبان، وهو استشهاد الرئيس المصري المختطف الدكتور محمد مرسي.

فقد عرف الشارع الجزائري تأثرا عميقا إثر الإعلان عن استشهاد الرئيس المصري، تجسد في صلاة الغائب التي أقيمت في المساجد وفي الميادين العامة، وفي هتافات تدين الثورة المضادة وترفع صور الرئيس الشهيد.

ولأن التوجهات اللائكية المعادية لرئيس المؤسسة العسكرية، ومن باب التناقض مع الانتماء العربي الإسلامي، أخذت موقف لا مبالاة، وصل عند بعض معلقي مواقع التواصل الاجتماعي إلى حد التشفي في  اغتيال سجين سياسي، مسؤولية حياته تقع على سجانيه، فقد أضيف سبب آخر لالتفاف الجماهير حول المؤسسة العسكرية.

وهكذا أبرزت الجمعة الثامنة عشر عددا هائلا من الإعلام الجزائرية، مع عدد محدود جدا من راية “جاك بينيت”، رأيت بنفسي أن الجماهير قامت بحرق إحداها في أحد التظاهرات، وقيل لي أن رجال الشرطة انتزعوا راية مماثلة كان أحد الشباب يحاول استفزازهم بها، وهو ما لا أقطع به لأن أي خبر يحتمل الصدق وغير الصدق.

وكان أروع ما تابعناه تجمعا كبيرا في بجاية ردد النشيد الوطني في ظل غابة من الأعلام الوطنية، وعدد محدود جدا من العلم الضرار.

لكن المهم أن الأمور مرّت بسلام عبر كلّ التجمعات، ولم يكن هناك استفزاز ذو أهمية من أي جانب، وهو ما لا ينفي أن أقنعة كثيرة سقطت، كان يختفي وراءها خبراء إمساك العصا من الوسط.

رأي اليوم

اثنين, 24/06/2019 - 10:16