الجزائر: جولة أخرى في الفضاء الأزرق

 محيي الدين عميمور

كان الانتصار الكروي الجزائري جرعة من الهواء النقي للجماهير العربية التواقة إلى أي انتصار في أي مجال تواجه به الإحباط الذي خلقه الزمن الرديء، بتعبير الراحل عبد الحميد مهري.
ولقد كانت ردود فعل الجماهير العربية في القمة، لكن الفرحة الفلسطينية بالانتصار الجزائري كانت الأكثر وضوحا، وكان أحسن من عبّر عنها العاهل المغربي بقوله ما معناه أنه “انتصار لنا”.
لكن، كان من المتوقع أن تكون هناك ردود فعل سلبية إلى أبعد الحدود، سيتميز من يقفون وراءها بأنهم سوف يتسترون، غالبا، على الدافع الحقيقي لخيبة أملهم في نتائج المباراة النهائية لكأس إفريقيا.
عندنا، كان هؤلاء ممن يجسدون وضعية الغضب لفشلهم في القفز على نتائج الحراك الوطني والتموقع على قمة الدولة، ومنهم من راحوا يهمزون ويغمزون بسفر رئيس الدولة إلى مصر تاركا الدولة “سداح مداح”، كما يقول الإخوة في المشرق ( وأعترف أنني لم أكن شخصيا من المتحمسين لسفر عبد القادر بن صالح، لكنني تفهمت موقفه والذي أثبت به أن الدولة الجزائرية لا تعيش وضعية طوارئ تمنع رئيس الدولة من رفع رايتها في لقاء رياضي دولي)
وراح هؤلاء ينتظرون من شباب المشجعين الذين سافروا إلى مصر رفع شعارات مهينة لرئيس الدولة لتؤكد للعالم أنه، كما يرددون، مرفوض من الشعب الجزائري.
وكان ممن يرفعون لواء المعارضة الجزائرية في الخارج سائق سابق في إجدى السفارات الجزائرية، راح يدعو الأنصار الجزائريين إلى التصرف بعداء مع الرئيس المصري (والذي لم يحضر المباراة أساسا لسبب لا أعرفه) كان الرد من معلقين جزائريين: لماذا  لا ترسل أبناءك إلى القاهرة ليقوموا بما تطالب به أبناء الآخرين.
وتزايد غضب “الجماعة” عندما كان تصرف الجمهور الجزائري في الملعب عاديا جدا تجاه الرئيس الجزائري، وعندما قال أحد الغاضبين بأن أحدا من المشجعين لم يلحظ وجود بن صالح كان الردّ السريع بأن الشاشات الكبيرة في الملعب أظهرت وجوده بشكل واضح أكثر من مرة.
وهناك راح الغاضبون يتقولون على تخصيص الجيش لطائرات ضخمة لنقل عدد من المشجعين الجزائريين إلى القاهرة، وهو إهدار لمال الشعب الجزائري وسَفَه لا مبرر له !!، ونفس هؤلاء هم الذين كانوا يصرخون قبل قرار الجيش بأن على لدولة أن تضمن تشجيع لاعبي الفريق الوطني بإرسال أكبر عدد ممكن من الأنصار، وتساءل البعض عن فائدة وجود طائرات عسكرية ضخمة نائمة في الحظائر بدون الاستفادة منها.
وعندما توجه أعضاء السفارة الجزائرية قبل المباراة إلى أرض الملعب لتحية اللاعبين، كان تركيز “الجماعة” على الملحق العسكري الذين كان بملابسه الرسمية كما يقضي بذلك العرف الديبلوماسي في حضور رئيس الدولة، وتعالت التعليقات الاحتجاجية في “الفيس بوك” منددة بالدولة العسكرية، ومكررة النداءات الحمقاء التي بثت في بعض التظاهرات منادية بدولة مدنية لا عسكرية، وهم أنفسهم من هلل لسيادة المؤسسة العسكرية في التسعينيات.
وارتكب اللاعبون الخطيئة الكبرى عندما سجدوا شكرا لله عند انتهاء المباراة شكرا لله على النصر، وهنا تصاعد غضب “جماعتنا” والذين كانوا يرددون، استهانة بالفريق، أن كثيرا من أعضائه تم استدعاؤهم من فرق أجنبية، وكأن هذا كان تصرفا شاذا في مجال لعب الكرة العربية، وهكذا أصبح أعضاء الفريق بعثيين أصوليين.
وكان السقوط الأكبر للجماعة هو أنهم لم يشاركوا بشكل واضح في الترحيب بالانتصار الجزائري الذي رأوه فرصة يستفيد منها النظام، وهو ما حدث فعلا حيث بدت صورة الجزائر للجميع دولة قائمة تكذب كل من راحوا يتباكون على الشغور.
وراح الخبثاء من الجانبين يبحثون عن مبررات للفتنة، تكرارا لما عشناه في نهاية العشرية الماضية.
ويُعلق “أبو العباس برحايل” قائلا: هناك خبثاء يعملون كل مستحيل لتعكير العلاقات الأخوية بين الجزائر وإخوتهم العرب لخدمة الأجندة الفرنسية والزوافية الخبيثة.. فهم لا يروننا عربا ولا يريدون لنا أن نكون عربا وهذا كل ما يهمهم..
خادم الفرنس- بربريست (فلان) كتب أمس يطالب بخفض علاقتنا الديبلوماسية مع القاهرة بل وبالانسحاب من الجامعة العربية !. بدعوى أن “السيسي” لم يستقبل “بن صالح” في المطار!.. وأنه لم يسلم الكأس لمحرز!.. وأن في ذلك إهانة للجزائر!!.. (وأنا شخصيا أعتقد أن الاستقبال في المطار كان يفتقد الذكاء وحسن التصرف المعروف عن الأشقاء، وبغض النظر أن ذلك تم أيضا من قبل مع الرئيس السنغالي)
لكن ما حدث بعد المباراة لم يكن في مصلحة الصورة التي كانت متألقة حتى اليوم التالي، حيث حدثت المشاكل في مطار القاهرة بين بعض الأنصار ومصالح الأمن المصرية، وكان موقف الجميع في الجزائر متفهما لما حدث، وإن كنت أعتقد أنه كان هناك تقصير كبير من الهيئة المنظمة الجزائرية لسفر الأنصار، حيت كان المفروض ألا يغادر أحد منهم العاصمة المصرية إلا بعد مغادرة آخر المشجعين، وأن يكونوا هم صلة الوصل بين الأنصار وعناصر الأمن المصرية، وهو تقصير يجب أن يُحاسب كل المسؤولين عنه.
ولم يكن مفاجئا أن يتساءل واحد من “جماعتنا” ساخرا: أين كان الملحق العسكري ؟
وترد عليه الصحفية “حياة عمور” بالتالي :الملحق العسكري في مكتبه بعدما عاد كل الأنصار الذين تكفلت المؤسسة العسكرية بنقلهم للقاهرة، وعادوا سالمين وفي وقتهم كما كان مخططا ..أما الذين يتباكون ويدعون بأنهم تركوا من قِبل السلطات الجزائرية في مطار القاهرة فهم من تخلوا عن رحلاتهم في الربع والنصف النهائي، وعندما إنتهت الفعاليات أرادوا العودة قبل الجميع وكان عليهم إحترام تذاكرهم وتاريخ عودتهم وليس التباكي والافتراء على السلطات الجزائرية المدنية. (وأذكر هنا بما قاله معتز مطر من أن السلطات المصرية رفضت بقاء الطائرات العسكرية الجزائرية على أرضية مطار القاهرة)
ويقول وليد القيصر : الكثيرون ممن تنقلوا من أجل مباراة “الربع نهائي” ضد “كوت ديفوار” والنصف نهائي ضد “نيجيريا” رفضوا العودة مباشرة بعد نهاية المباراة و فضلوا البقاء حتى النهائي، هؤلاء ينطبق عليهم القول ” يداك أوكتا وفوك نفخ”.
في الجانب المصري كان هناك أيضا من تفجر غضبهم إثر الانتصار الجزائري، وجاءتهم الفرصة عندما اكتفى اللاعب رياض محرز بمصافحة رئيس الدولة الجزائري ولم يصافح رئيس الوزراء المصري، وبينما تصور البعض في الجزائر أن الأمر مقصود لأن رئيس الوزراء المصري لم يكن في استقبال عبد القادر بن صالح في المطار، قال البعض، وكنت من بينهم، إن اللاعب لم يكن ليتعرف على رئيس الوزراء الجزائري لو كان موجودا على المنصة، فواضح أنه كان مرتبكا إثر تسلم الكأس من الرئيس الجزائري وكان يريد الإسراع بلقاء زملائه حاملا كأس النصر.
لكن قنوات الصرف الصحي التي عرفناها منذ عشر سنوات راحت تصب قاذوراتها، لا على محرز فقط، وإنما على الجزائر، معيدة نفس السيناريو المنحطّ الذي عشناه قبل وخلال وبعد أم درمان.
ويتحفظ الإعلام الجزائري بشكل عام، فلا يدخل في مباراة لا يُشكل الانتصار فيها مجدا لأحد.
ويوضح ياسين بن لمنور ما حدث قائلا:
بخصوص قضية رياض محرز..أنقلها لكم مثلما وردت لحظة بلحظة:
1-      بعد أن تسلم لاعبو المنتخب ميدالياتهم ، بقي بلماضي ومحرز، ثم جاء أحد المنظمين وقال لمحرز بالعامية ثم بالإنجليزية “لا تذهب مباشرة بعد تسلمك الميدالية وسيتم المناداة بإسمك لحمل الكأس”..
2- المنصة كان فيها على التوالي: منظم من الكاف يحمل الميداليات – أحمد الأحمد – أنفانتينو – بن صالح – رئيس وزراء مصر – شخص جنبه لم أعرفه – ,.وزير الرياضة السنغالي مطار با – رئيس الإتحاد الجزائري خير الدين زطشي – رئيس الإتحاد السنغالي لكرة القدم..
3- صعد “بلماضي” (المدرب) للمنصة وتسلم ميداليته وسلم على الجميع بما فيهم ما قبل آخر واحد وهو رئيس الإتحاد الجزائري، وكذلك نظيره السنغالي،، وبالتالي لا أعتقد أن محرز سيتجاهل رئيسه!! ورغم ذلك لم يصافحه، ويتجاهل وزير السنغال ورئيس الإتحاد السنغالي!!!
3- صعد محرز وبمجرد تسلم الميدالية، بدأ مذيع الحفل في تلاوة إسمه باللغة العربية ليذهب لتسلم الكأس، وهنا محرز كان يصافح “أنفانتينو” الذي ظل يتحدث مع محرز وكاد يعطّله حتى على مصافحة رئيس الدولة الجزائرية.
4- محرز وهو يصافح بن صالح ، نظر لرئيس وزراء مصر وابتسم له مرتين، وبمجرد أن نظر إليه نطق مذيع الحفل بأعلى صوته كابتن رياااااااااااااض محراااااااااااز، هنا محرز نظر يسارا ثم أعاد النظر يمينا، ولم يكن يعرف أين يذهب (وهذا خطأ تنظيمي بحت لأنه لا يعقل أن تنادي على لاعب ليتسلم كأسا وهو في منتصف المنصة يصافح أحد المسؤولين!!!) ثم عاد لبداية المنصة وتسلم الكأس ولم يسلم على بقية الحضور بما فيهم رئيسه ورئيس اتحاد السنغال ووزير الرياضة السنغالي!!
ويسارع محامٍ مصري مهمته منذ سنوات تقديم بلاغات للنائب العام لتصفية الحسابات مع من يتصور أن النظام يريد ذلك، فيطالب بمنع محرز من الدخول إلى مصر، ويجيبه على الفور المحامي الجزائري إبراهيم بو لحية ( والذي خلفني في رئاسة لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان).
ويقول إبراهيم :
أولا.. يجب عدم الاعتداد بمثل هذه الشطحات البهلوانية من قبل هذا المدعي .. لمهنة المحاماة النبيلة ..
ثانيا.. هو إن كان فعلا محاميا كما يدعي بأن الخطأ هو إهانة لمصر وشعب مصر ..فالخطأ يتحمله القائمون على التشريفات سواء .. من تشريفات الإتحاد الإفريقي .. أو تشريفات جمهورية مصر العربية…
ثالثا… قائد منتخب الجزائر .. رياض محرز ..يعرفه الجميع ..بدماثة الأخلاق ..وحسن السيرة والسلوك… وهو ابن الشعب الجزائري.. المتخلق والفاضل ..
رابعا…هذه الشطحة من هذا المحامي المنتحل للصفة ..يذكرني .. بقضية .. لخضر بلومي التي افتعلها بعض الإعلاميين والمحامين المصريين..والتي دامت سنوات عديدة .. قبل أن تظهر الحقيقة على لسان المصريين أنفسهم على غرار احمد شوبير..وبوريدة .. وغيرهم .. وكذا قضية الإعتداء على حافلة المنتخب الوطني سنة 2009 ..
وأعتقد، يختتم إبراهيم تعليقه، أن هذا المدعي ..يهدف إلى تشويه رياض محرز والتأثير، في محاولة يائسة، على حظوظه في الفوز بالكرة الذهبية الإفريقية..لكن هيهات..
ويسارع المستشار المصري عبد الغني عجاج، والذي عرفناه ديبلوماسيا متميزا منذ سنوات في الجزائر، فيرسل لي قائلا: معالى الدكتور محيى الدين عميمور….تحياتى واحتراماتى….اعتذر عن أية تعليقات سخيفة تنم عن عدم فهم وضحالة الثقافة…(..) اعتذر لك مجددا مع حبي وتقديري للجزائر الحبيبة وشعبها الشقيق.
وبعد هذه صورة سريعة نزلت بها إلى أرضية الأحداث لأوضح أمر رئيسيا، وهو أن هناك، عندهم وعندنا، من يحرصون على أن ترتفع أسوار الكراهية بين الشعبين، لكن الجديد هو أن ما عُرف عما عشناه منذ عشر سنوات قد أسقط الأستار عن خصوم التضامن العربي، هنا وهناك.
وكل الأخطاء التي يجترها البعض عندنا كانت فرصة للإساءة لكل ما هو عربي، وراء ستار المناداة بالتعددية الثقافية أحيانا وبدعوات الديموقراطية أحيانا أخرى، وغالبا للتنديد بالمؤسسة العسكرية التي تتكفل بنقل أنصار الكرة بدلا من القيام بمهمتها الأصلية (وهي طبعا إعطاءهم فرصة التموقع فوق رؤوس الجميع).
ومن هؤلاء من لم يختلف ردّ فعلهم عن ردود فعل اليمين الفرنسي المتطرف، الذي كان ينتصر لخصوم الفريق الجزائري، ومن بين “جماعتنا” من سارع للتنديد بحادث سيارة مسرعة قتلت سيدة فرنسية ونُشر في البداية، بالتسرّع المألوف، أن السائق كان جزائريا من أنصار الفريق الرياضي، وهو ما تم تكذيبه من عناصر الأمن الفرنسي في اليوم التالي، لكن من كان ردد ذلك الاتهام لم ينشر التكذيب.
ونجد أن الصحافة الفرنسية كانت أكثر ذكاء من الاتجاهات الفرانكوفيلية عندنا، فقد اعترفت بأن عشرات الآلاف من الأنصار الجزائريين في فرنسا تظاهروا فرحين بالانتصار وبدون أي إساءة، لفظية أو مادية، للمحيط الفرنسي.

رأي اليوم 

أربعاء, 24/07/2019 - 12:04